سيد مقتدى الصدر.. السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وشهر رمضان مبارك عليكم وعلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم في مشارق الأرض ومغاربها، وكل زمن والعراق معافى، والشام في أحسن حال...
قبل الحديث ياسيد مقتدى :
«والله ليست هذه معركتنا ولامعركتكم»، وأدرك أن هناك من لايفهم أسرارها وشفافيتها ولايعرف كنهها والنوايا الطيبة التي تكتنفها والضرورة التي يجب أن نتحكم فيها ولا تتحكم فينا كمجموعات بشرية توحشت حدا لم يعد مقبولا ألبتة، وأن هناك من المغامرين في حكمه من لايستحضر حال الأمة اليوم.
وقبل الحديث أيضا ياسيد مقتدى عن تصريحاتك العقلانية الأخيرة بخصوص أهل السنة في العراق، سأبدأ في هذه الرسالة من أقوى الأسس التي يصلح أن تبين كيف يكون الخطاب إنسانيا، وبما أن الناس على دين ملوكهم كما قيل فإن أكثر ما يذكي نار الطائفية هو تصريحات القادة والمرجعيات وعلية القوم ليحترق بنارها السواد الأعظم، ويكتوي بجحيمها المساكين والضعفاء ومن لاناقة لهم بها ولاجمل، ولذلك كان حقا على الكبار من الطرفين أن يكونوا عقلاء ومتزنين في هذه الظروف القاهرة من تاريخ أمتنا المجيدة، ولايمكن أن ينسى الشرفاء موقف خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله- وكان منذ سنوات حينما كان وليا للعهد يؤكد على مضامين إسلامية وإنسانية يستحضرها العقلاء والأسوياء، وذلك حينما أصاب إيران زلزال مدمر، واحتاجت لإغاثة مادية ومعنوية، وكتب مغامر في أحد المنتديات بأن يتبرع الناس بدماء ملوثة بالإيدز انتقاما من الشيعة آنذاك، وأذكر أن خادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز صرح تصريحا في تلك الليلة وكان غاضبا من كتابة مثل هذا الموضوع وقال لايمكن لسعودي أن يقترح مثل هذا الاقتراح أبدا أبداً.
كان خادم الحرمين الشريفين يعطي الناس على اختلاف مشاربهم دروساً في التعايش والإنسانية التي يجب ألا تغيب عن المشهد الإسلامي على اختلاف طوائفه وقسوة معاركه، ولذلك حمل هم هذه المبادئ عالميا فتبنى الحوار بين الحضارات حينما تبنى غيره الصدام بينها، تبنى العفو والرحمة حينما تبنى غيره الانتقام والذبح على الهوية، كما أنني أرصد من عقلائنا في هذا الوطن وهم يحاولون وأد كل فتنة طائفية مهما حاول المغامرون شرعنتها وفرضها على الناس بحجة الواقع والمعاملة بالمثل ونصرة السنة، ولا يمكن لنا في هذا الوطن مثلا أن ننسى أيضا جهود علماء الشيعة في القطيف وموقفهم الوطني النبيل وهكذا الشرفاء يسطرون مواقفهم الخالدة بشجاعة وبسالة، حينما وقفوا صفا واحدا أمام الإرهاب والتطرف فكان بيانهم المشهور إذ أوردوا في بيانهم «أن أعظم مقصد للدين، وأهم مطلب للمجتمع هو بسط الأمن والاستقرار في البلاد»، وأشاروا إلى «أن مجتمعات الأمة بليت في هذا العصر بجماعات وتيارات متطرفة تمارس الإرهاب والعنف تحت عناوين دينية وسياسية والدين بريء من الإرهاب والعنف السياسي، إذ إن كل ذلك يدمر الأوطان». وحذروا من العنف بجميع أشكاله «نحذر أبناءنا وشبابنا الأعزاء من الانجراف خلف توجهات العنف والتطرف، فهو لا يحل مشكلة، ولا يحقق مطلبا، بل يزيد المشاكل تعقيدا، ويحقق مآرب الأعداء الطامعين». وأصلوا دعوتهم بذكرهم بأن: «وما نعرفه من سيرة أئمة أهل البيت ومن توجيهاتهم الهادية، أنهم يؤكدون على حفظ وحدة الأمة ورعاية المصلحة العامة، ورفض أي احتراب داخلي حماية للسلم والأمن في مجتمع المسلمين، وذلك هو نهج مراجعنا وفقهائنا الكرام»، وكان ذلك امتدادا لموقف آبائهم وأجدادهم مع الملك عبدالعزيز حينما طلب منهم المندوب البريطاني «السامي» في المنطقة «طلب الحماية من بريطانيا»، كبقية المحميات البريطانية في الخليج ولكنهم طلبوا الحماية من المغفور له المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، وذلك انطلاقا من القاعدة الشرعية «لا ولاية لكافر على مسلم».
وعطفا عليه يا مقتدى الصدر، في هذا الوقت أتمنى من كل الأطراف أن يرحموا بعضهم ويعطفوا على من كان قدرهم أن يعيشوا تحت من خالفهم في المذهب سواء السنة في إيران أو الشيعة في الخليج، وأكبر خطأ تاريخي في حق شعوب المنطقة المتعايشين منذ مئات السنين أن يوقظوا من سباتهم التاريخي العميق على قرع طبول الحرب، لأن هذه المعارك ليست معاركهم وصدور إخوانهم لاتستحق أن تغمد فيها سيوفهم وبخاصة في ظل تهييج للغوغاء والدهماء بسب أموات فضلاء أفضوا إلى ماأفضوا إليه وعاشوا زمانهم وعلينا أن نعيش زماننا ونتناسى الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، والذي خفيت جل تفاصيله وأسبابه، وما ورثناه في كتب التاريخ ومصادرالمعرفة لا يمكن أن يكون أساسا للتعامل بين الأطراف فقد يكون كذبا وقد يكون مكتوبا لإدانة طرف على طرف وقد يكون مبالغا فيه وقد وقد، فيجب السكوت عن كل ذلك كما أوصى السلف الصالح فإنها فتن عصم الله منها سيوفنا فيجب علينا أن نعصم منها ألسنتنا، وكيف وقد أصبحت في هذا الزمن سببا للخلاف بين الشيعة والسنة، الذين تركوا واقعهم وعاشوا في دهاليز التاريخ واستحضروا كل قصة وكل قول وكل نص يزيد من الفرقة والخلاف والشتات فأعلنوا حروبا ليست مشروعة ولاطائل منها ألبتة، ولذلك يا مقتدى الصدر حينما استحضرت الهند عقلها وحضارتها وتمدنها وواقعها ومستقبلها وأجيالها عاشت فيما بينها ديمقراطيا ونجحت معرفيا وتصدرت العالم تكنولوجيا وهم أكثر من ثلاثة آلاف عرق ولغة وأكثر من مليار هندي لا يملكون من حطام الدنيا وأسبابها شيئا بينما نحن أهل القبلة في الإسلام بين أيدينا ثروات العالم ينحر بعضنا بعضا لمجرد أن المواطن يحمل في هويته اسم عمر وعلي رضي الله عنهما.
يا مقتدى الصدر، إن كانت الشقيقة إيران لم توفق في الشعور بوحدة الأمة الإسلامية قاطبة فارتضت النفس الطائفي ولعبت على وترالمذهبية والعرقية الفارسية، وظلمت من تحت ولايتها من السنة فمن حق الشيعة العرب في العراق على الأقل أن يحافظوا على هويتهم العربية ومشروعهم الإسلامي وألا يذوبوا في مشروع غير مشروعهم، وتكون لهم مرجعياتهم حتى لايرتموا في أحضان وأجندة تدمر المشروع والأمة، فالعرب في العراق أولى ببعضهم وبخاصة أن الشيعة العرب محتقرون في تلك الذهنية التي تقودهم وهم الذين كانوا يقودون في كل مراحل التاريخ الإسلامي، ويجب على إخوانهم العرب أن يفسحوا الأحضان لإخوانهم الشيعة العرب في العراق حتى لاتستغلهم الأطراف ولا أدل على ذلك من فعل سيدنا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين الذي رفض أن يأخذ الجزية من تغلب ورفع السبي عنهم وهم نصارى خشية أن يلحقوا بالعجم وتتنصر أبناؤهم، فمابالك بمن كانوا من أهل القبلة أصلا فهم أحق بالاحتواء والاحتضان.
يا مقتدى الصدر، حينما يكون الإنسان في هذا الجزء من العالم محاطا بكمية هائلة من العداء الطائفي فإن ذلك هو القدر المؤلم، وبخاصة أنه يستحيل أن يصبح كل السنة شيعة أو العكس وغير ممكن انتصار الشيعة وهزيمة السنة والعكس أيضا، فالكارثة فيمن يشيطنون بعضهم ويجتمعون والثقة مفقودة بينهم حتى أصبحت الحاجة إلى عقلاء ضرورة وليست ترفا لكي يسيطرالتفاهم على الغوغاء والدهماء من الطرفين وتفرض الحكمة مبدأ التعايش والحوار والتصالح لبناء أوطان يستظل بها الناس من حرارة الصيف وزمهرير الشتاء في الدنيا وفي الآخرة حسابهم على الله، وفي هذه الظروف التي تمر بأمتنا المجيدة وقد استباحت الطائفية كل شيء وسيطر الصراع بين الشيعة والسنة على المشهد الإسلامي، وتجاوز المسلمون في صراعهم كل معاني التسامح والتعايش فبعثوا كل طائفة كانت منسية إلى عالم الواقع الذي يعبث به ويحركه الأعداء والأغيار ونحن في سبات عميق ولاندري أننا مسخرون لأولئك ومطيعون لهم من حيث ندري ومن حيث لا ندري، وسنصحو ذات يوم ولكن بعد فوات الآوان.
في هذه الظروف يامقتدى هناك من دون شك أصوات عاقلة خرجت تحذر من استتباع الشيعة العرب للمشروع الإيراني كما هو حال الشيخ صبحي الطفيلي (أمين عام حزب الله الأسبق، رجل المرحلة ورجل الأمة ورجل العروبة والإسلام )، وسواه من العقلاء، ولا أخفيك يا مقتدى الصدر أنك في تصريحاتك الأخيرة ترسم لك مكانة تاريخية وتستحضر دورك الإنساني الذي يليق بك كمحب لآل البيت الكرام وبكل شريف، ولسنا والله مع من يفسر ذلك بالتقية والتستر لأن التقية في المذهب الشيعي تكون في موقف الضعف والهزيمة والخوف وأنت في موقف عزيز والله.
يامقتدى، وعطفا على ما سبق سمعت تصريحك والعراق يحترق بخلافاته التي أذكتها الطائفية ووصلت به إلى باب مسدود والإدارة غير المسؤولة التي رجعت به إلى المربع الأول، وكان قدر العراق وقدركم وقدر العرب شيعتهم وسنتهم وكل من خرج من مرحلة البعث مؤلما، وكان بحاجة إلى رجال في مرحلته الجديدة، ولكن الكارثة أن القوى التي تتحكم بالشأن السياسي أسقطت حزب البعث من جهة وسلمت حزب الدعوة من الجهة الأخرى ليعيش العراق والعراقيون في متوالية الطائفية والاستبداد من جديد، والتي لا تنتهي آلامها في حق الوطن والقانون والإنسان في العراق الذي علم البشرية القانون والأبجدية والفن والزراعة والصناعة والدساتير والعبقرية من حمورابي ونينوى وحدائق بابل وكانت النتيجة كارثية وتفاقمت، ولم يقتصر التهييج على طرف دون طرف، فقد كان هناك مجانين من الشيعة ومجانين من السنة وما أكثرهم، وتصارعوا حتى شيطن الطرفان بعضهما بعضا، واستحضروا نصوصا وآثار وروايات شاذة وفرضوا جنونهم على عقلاء الجانبين فكان العراق والفوضى.
يا مقتدى الصدر، التاريخ يسجل في صفحاته الخالدين الذين يستشعرون الكوارث ويحاولون إنقاذ البشرية من تحطيمها ومن تبعات لا تحمد عقباها وما تصريحاتك الأخيرة المعتدلة فيما يخص حقوق أهل السنة الذين عانوا من التهميش والإقصاء إلا الموقف الصراح والهدف النبيل إذ دعوت في خطاب الأربعاء إلى «الإسراع بتشكيل الحكومة الوطنية بوجوه جديدة ومن كافة الأطياف وبعيدة عن المحاصصة الطائفية»، وطالبت الحكومة بأن تتعهد «بإمضاء المطالب السلمية المشروعة لسنة العراق المعتدلين الذين عانوا التهميش والإقصاء». ووجهت انتقادا غير مباشر إلى المالكي، حيث قلت إن شيعة العراق صاروا «تحت أفكاك الظالم الذي يريد المصالح الشخصية لا المذهبية ولا الإسلامية الوطنية» مما يدل أن جمع الشمل ممكن وليس ضربا من المستحيل لو عثر الواقع على عقلاء يستحضرون مصلحة الأمة قاطبة، وينصفون الآخر قبل إنصاف أنفسهم، عقلاء يعشقون مبادئهم ويتسامون عن عشق الذات، وكانت تصريحاتك المعتدلة والتي نتنمنى أن تتوالى وتكون أكثر في التراجع والتصحيح وألا تتغير في المستقبل وأن تكون زئبقيا تحت أي مسوغ، وبخاصة أن مثل تلك التصريحات لايجرؤ عليها إلا من هو مثل شجاعة مقتدى الصدر الذي يحب آل البيت ولا يليق به إلا أن يكون على قدر ذلك الحب وتلك المسؤولية حينما يعمد إلى مواطن الاختلاف الشيعي السني فيصححها دون تفكير بالخسارة في الدنيا طمعا في ربح الآخرة ورضا المسلمين في العالم الإسلامي وجمع كلمتهم وتوحيد صفهم، ولايمكن للعالم الإسلامي أن ينسى تصريحك في مؤتمر في النجف في شهر آب 2012 حينما ألقيت خطابا فاجأت به الكثيرين من السنة والشيعة على السواء، وذلك عندما ترحمت على الخلفاء الراشدين الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وأعلنت أن الشيخين سيدي خليفة رسول الله أبا بكر الصديق وأمير المومنين عمر بن الخطاب لم يدعوان للقتل وهذه ثالثة الأثافي التي زادت من رقعة الخلاف بين الطائفتين، فالسب والشتم والتكفير للشيخين من أكثر ما ينقم به أهل السنة على الشيعة وبخاصة اعتمادهم على روايات موضوعة، وذكرت سيدنا أمير المؤمنين عليا رابعهم كما يفعل سنة العالم الاسلامي، ووقفت أمام التطرف والتعصب المذهبي أيا كان مصدره، وذهبت إلى أبعد من كل ذلك في التاريخ حينما صرحت علنا بتبرئة يزيد من دم الحسين عليه السلام.. فكانت رسالة متوازنة يندر أن نسمع مثلها من مرجعيات المذهب الشيعي، وقد أثار هذا اخطاب غضب وغيظ المتطرفين من الشيعة، ولكن أعطيت درسا عظيما في التراجع والتبرئة ومن يسير على منهج آل البيت الكرام الذين يحبون ولايكرهون ويتسامحون ولاينتقمون...والله من وراء القصد.