حينما قال الزير: «ذهب الصلح أو يعود كليبا» كان يعي ما يقول، أي إلى أن يعود كليباً ولن يعود، لأن بكر بن وائل في تعديهم على دم ملك العرب كليب خطيئة لا تغتفر أبداًَ، وحينما قال مرة والد جساس للجليلة نرضي بني تغلب بالديات، قالت له: «أمنية مجنون ورب الكعبة، لن تدع لك تغلب ربّها (سيدها كليب) بالبدن» كانوا أكثر وعياً وفهماً للواقع منا في الثورة الرابعة ثورة التكنولوجيا والاتصالات، وهكذا
من يفسد ويتجاوز ويعبث ثم يأتي حالما بالمصالحة دونما أن يتخلى عن شيطنته وطموحه الذي سيكون على أنقاض الجميع، ولقد نجح سيدنا الحسن بن علي في المصالحة مع سيدنا معاوية لأنهما ينطلقان من أسس واحدة وهدف واحد والنية سليمة من الطرفين، فكان التنازل من الأعظم للعظيم وسمى المسلون ذلك العام عام الجماعة واتجهت الأمة لنشر الإسلام، فبلغ مدغشقر في الصين والأندلس في أوروبا، وكل الدول والمجتمعات الإنسانية التي تعاني من الصراعات والتأزيم يسعى الشرفاء فيها للمصالحة الوطنية وتنجح لأنها تتفق على أن الوطن أولاً وتبدأ في التنازلات لتلتقي ولا تجد معوقات في الأسس التي ينطلق منها المتصالحون وأما إن كان أحد الأطراف لا يرى الوطن أصلاً ولا يؤمن بشرعيته وقضاياه وطوائفه ويتعاون مع كل طارئ ويتعمد ويتذبذب في مواقفه ويتلون ويشرعن قتل المخالف ويشيطن الآخر دونما تنازل عن مشروعه السياسي الذي لا يمكن أن نتفاهم معه لخلل فيه فأعتقد أن جهود المصالحة عبث ومناورات، وهذا ما يكتنف جماعة الإخوان المسلمين التي أكد تاريخها أنها لا ترى إلا مشروعها السياسي ولو على الجماجم والأجساد والتغريد خارج السرب الوطني والعبث بالولاءات والنحو بها منحى لا يمكن صلاحه فيما بعد، لأن الأسس التي تربو عليها في خلايا التنظيم تتعارض مع الوطنية والوطن، ويغذون الشباب بكره التراب وأن الإخوة في الدين وليست في الطين كما كانوا يركزون عليه في المخيمات والأنشطة والجمعيات، ولذلك لن تجد إخوانياً يقول السعودية أولاً ومصر أولاً، كما قالها ذلك الأمريكي في حرب الخليج حينما خيرته حبيبته بينها وبين أن يبقى في صحراء الخليج فأرسل لها رسالة من كلمتين أمريكا أولاً والسبب أن مفهوم المواطنة في ذهن الأمريكي واضحة المعالم بينما تحاربها الجماعة في أوطاننا، ولن تجد إخوانياً يقف إن عزف السلام الوطني كما يقف الجمهور التايلاندي في صباح كل يوم حينما يفتتحون سوقهم الشعبي بالسلام الوطني والسبب أن المواطنين هناك يدركون معنى المواطنة وحب التراب، بينما ترى الجماعة عندنا أن الحديث عن الأرض والحدود جريمة لا تغتفر انطلاقاً من مشروعها الأممي والجماعة الأم، ولن تجد إخوانياً يتابع غريبين من بين الجبال والسهول لأنه شك فيهما وخاف منهما على أمن بلاده كما فعل مواطنان صينيان في متابعة غريبين والأجمل من ذلك أن المواطنين لم يكونا عضوين في أحد الأجهزة الأمنية بل انطلقا مما تمليه عليهمالوطنية فكانا رجلي أمن وهما مدنيان، كل ذلك لا يمكن أن تبادر فيه المجموعات الحركية قاطبة لأنها في عداء مع الوطن والشعب والحياة... حينما شيطنت جماعة الإخوان المسلمين الوطن وكل ما يتعلق به من كانت تنطلق من تحقيق أهدافها الأممية والجماعة الأم، وحاولت على مدى عقود من خلال مناهج التربية والجمعيات والعمل التطوعي أن تنزع من نفوس الفئات المستهدفة هذا الشعور الفطري الذي لم تستطع كل القوى أن تنزعه من الكائنات الحية الأخرى، وبناء عليه فأي مصالحة وطنية تقتضيها الضرورة لا يمكن أن تكون إن كانت النوايا تشوبها الشوائب ورن كانت الأسس التي ينطلق منها المتصالحون مستحيلة التحقيق وبخاصة إذا كانت جماعة مثل جماعة الإخوان المسلمين لا تؤمن بالوطن كحدود وثوابت ورؤى واستراتيجيات، بل إن الواقع أثبت أنها جماعة فاشلة كمشروع سياسي وأنها تؤدي في محصلتها النهائية إلى ما يسمى عند الساسة وخبراء الاقتصاد بالدولة الفاشلة لأنها لا تستطيع أن تعتمد على الإسلام الحقيقي في مسيرتها مع نفسها ومع الآخر لأنها كانت في حروبها مع من قبلها لم تنطلق من معطيات وطنية متغيّرة ووجهات نظر بل انطلقت من فلسفة ثابتة وإيديولوجيا ممنهجة حاربت بها الأنظمة، ولو تمكنت من السلطة فلن تحد مناصاً من التناقض، وستجد نفسها مضطرة إلى أن تمارس ما كانت تراه مخالفات شرعية وستضطر إلى التعامل مع قضايا الأمة من خلال رؤية الحكومة وليس المعارضة الإسلامية، وستشرعن كل طريقة كانت تراها ناقضاً من نواقض الإسلام، وستفلسف الولاء والبراء ومصطلح ولي الأمر وعقيدة الحاكمية وقبول الذنوب كواقع حتمي وإلا ستكون وحدها في حصار اعتماداً على أسس الأمس، وخير دليل جماعة الإخوان في مصر ومسيرتها المعارضة مع الرؤساء كلهم، وبلغت بها المهازل أنها ثارت على الأنظمة وشيطنتها ثم تطرح جواز أن يتولى الرئاسة غير المسلمين لكي يقال عنها إنها أكثر تسامحاً في صورة لم ترضها تلك أنظمة الأمس وقد عارضتهم ووقفت في وجوههم، بل إن قضية فلسطين التي ألهبوا الشعوب بسببها هم أكثر المتنازلين عنها في سبيل قبول الغرب لهما بديلاً عن أنظمة الأمس، الحق كل الحق أن هذا التنظيم ما أن قفز على الحكم حتى ظهرت بوجه آخر تماماً، والشعب المصري انتخب مرسي ولم ينتخب المرشد العام للجماعة والاعتماد عليه في تدبير شؤون الدولة خيانة عظمى للشعب والأمة فضلاً عن التدابير التي اختطفت فيها الدولة لتعميم التنظيم على مفاصالدولة والتضحية بكل ثابت ومقدس من أجل مصلحة التنظيم ولو على حساب مصر كدولة، وهناك تفاصيل لايزال الوقت مبكراً لكشفها تثبت أن هذه الجماعة لا تصلح للحكم ولا لسياسة الناس وبخاصة أنها قد أخذت فرصتها وفشلت فشلاً ذريعاً في علاج قضايا الشعب المصري ولم يكن من أولوياتها ذات يوم...
إن الويلات التي يعاني منها العالم الإسلامي اليوم تتحمل وزره هذه الأيديولوجيا -وأقول أيديولوجيا لأنها فكر إنساني لا علاقة له بالإسلام -، والثابت أن كل الحركات الإرهابية والتنظيمات السرية التي أفسدت واقعنا وعطلت مسيرتنا وضيعت قضايانا هي من رحم هذه الجماعة، وكل رموز الحركيين متأثرون بأسسها وشخصياتها، ابتداء من فلسطين وانتهاء بسوريا، وفي سبيل مشروعها للسيطرة على الكرسي في هذا العالم وضعت يدها بيد من يريد تصدير الثورة في إيران وفي الوقت نفسه نجدها تضع يدها بيد البعث في احتلال الكويت في صورة متناقضة تؤكّد أنها بلا مبادئ ولا ينفع معها المصالحة التي سيستغلها التنظيم لترتيب صفوفه والعمل من جديد من خلال استراتيجيات أخرى في سبيل المشروع الكبير، وسيعود الناس إلى المربع الأول بالالتفاف كالأفعى على الواقع من جديد، فأي ولاء لمصر وهم يهددون بمزيد من الدماء وأي ولاء للإسلام وهم ينقضون عراه ويتآمرون عليه بصورة مقززة بدليل أنهم يؤيدون ويبايعون من يتحاكم للعلمانية والدساتير الوضعية ويبحثون لهم عن مسوغات ويزهدون بالعقيدة والحدود وسنن الإسلام، حتى سمعنا أحد المتابعين لهم ذات يوم يشتم العقيدة ووصفها بالقرف، وهي التي بعث الله كل الرسل من أجلها، ولو قالها مخالف لهم لكفروه واتهموه بالليبرالية والعلمانية، وهكذا هم في عدم موضوعيتهم وتنازلاتهم وعذرهم لبعضهم، ومن يتابع ما قاله رموزهم في مصر من تنازلات وبيع لكل مقدس ومغازلة للغرب وهم شياطين الأمس يقف على عدم تأهيليهم وعدم شرعيتهم لقيادة الأمة...
إن الشعب المصري بعد كل هذا التعب والأسى بحاجة إلى أن يعيش في دولة قانون وبكرامته بعيدا عن المغامرين والمستهترين وهو الذي سحب الثقة من جماعة الإخوان المسلمين وعزل مرسيها بإرادته ودونما تدخل من أحد ولا يمكن أن يعيدها تحت ما يسمى بالمصالحة وفتح الباب من جديد على مصراعيه لمن ثبت فشلهم وعدم مسؤوليتهم القومية في إدارة الدولة وتحقيق مآرب الشعب المكلوم والذي يعد هو الوحيد الذي يقرر المصالحة مع التنظيم الذي مارس عليه العنف والإرهاب والتأزيم، وبخاصة أنه شعب عركته التجارب وصاغته الظروف القاسية والحروب المصيرية، وهو في مشروعه أكبر من أولئك المغامرين الذين لا يحسنون فنون المصالحة التي ألغوها من معاجمهم الحركية وقواميسهم الإنسانية طيلة عقود، فالتنظيم الذي يختطف أبناء الشعب ويغير من ولاءاتهم الموضوعية وثوابتهم الوطنية لا يمكن أن يوثق فيه بعدما سحب منه البساط وتحول في المحاكمة الشعبية إلى مدان وبالدليل القاطع علما أن أي مبادرة من هذا النوع بحاجة أصلاً من أفراد التنظيم إلى التوبة من التخوين والتشكيك ولا يمكن أن تكون في ظل تلك الأيديولوجيا المتلونة التي لا تؤمن بالتعايش ولا التصالح، ومهما كانت الشروط لعودة التنظيم للعمل السياسي فلن يلتزم بالمضامين الوطنية والاستحقاقات الدستورية التي تنسف التنظيم رأساً على عقب وإلا سيبقى على حاله ويغير من استراتيجيته لتكون ضربته أقسى وأقوى وأكثر كارثية من ذي قبل، فتنظيم يري شرعية الانقلاب والقفز على السلطة بأي طريقة جدير بأن يصحح مساره ومفاهيمه وأن يعمل في إطار النظام الرسمي للدولة ودستورها المستفتى عليه وأن يتخلى عن نرجسيته إن كان يريد أن يتولى سياسة الشعوب، وباختصار يجب أن تكون المبادرات من أجل الوطن وليس من أجل التنظيم والحزب، من أجل أن تنهض مصر وليس من أجل أن يبعث التنظيم من جديد وتعود مصر للمربع الأول الذي أفسد عليها مسيرتها ونضالها المقدس، أتدرون لماذا؟ لأن مصر إن تعافت تتعافى الأمة كلها، وإن سلم الجيش المصري رمز البطولة والنضال فقد سلمت العروبة من كل الآلام، وربما كان قدرنا في هذا الوطن أن ينكر هذا التنظيم كل ما بذلته الدولة فيما سبق من تحرير رموزه من السجون وحبال المشانق في أنظمة أدركت خطره مبكراً، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، أكرمتهم وسلمتهم مفاصل التعليم والعمل التطوعي اعتقاداً منها أن الإسلام يحكم العلاقات والعروبة تعزز المروءة، والكارثةن الأتباع من جهلهم ومرضهم وحسدهم أسقطوا كل ما قاله رموز التنظيم السابقين قبل عقود في واقعهم على الوطن الذي مد لهم يد العون في وقت الحاجة الآن، أسقطوا كل نصوص الجاهلية الجديدة عليه وهو أبعد ما يكون عنها ولذلك حذر العماء وعلى رأسهم شيوخ الإسلام آل الشيخ وابن باز وابن عثيمين والألباني والفوزان وغيرهم من هذا التنظيم لأنه ظهر لهم جهلهم كأي فرقة مبتدعة في تنزيل الآيات التي نزلت في المشركين على واقع المسلمين كما يفعل الخوارج في ضلالهم المبين...
إن ترتيب البيت يقتضي أن تؤمن به ومن يسكنه ومن يجاوره وتعطي كل ذي حق حقه دونما مصادرة وتدخل بحج شيطانية واهية ولا يمكن أن يتأتى ذلك الترتيب الذي تدندن حوله الجماعة لمن ذهنه ممنهج لبرمجة الشعوب ضد أنظمتها وثوابتها الوطنية، ومن يحترف استعمال المصطلحات الإسلامية للسيطرة على شعورالمسلمين كالخلافة وكأن الأنظمة والشعوب في جاهلية تستحق الثورة والتغيير والنهضة، والعجب حينما يشترط رموز الجماعة إلغاء قانون الطوارئ وإطلاق حرية الصحف وأحزاب المعارضة وغير ذلك نسوا أن مرسي الممثل لتجربة الإخوان في الحكم والذي يرون شرعيته قد فرض قانون الطوارئ ومنع التجول ومنع الصحف وصادر الحريات وما أكثر القرارات في عهد الإخوان لمنع تلك الحريات التي يطالبون بها اليوم بل إن مرسي وهو الرئيس رفع قضية ضد توفيق عكاشة مما يثبت أن هذه الجماعة ترى القذاة في عين أخيها ولا ترى الجذع في عينها وأما مساحة الحريات التي كانت تمارسها أحزاب المعارضة وعلى رأسها كفاية والوفد على عهد حسني أكثر بكثير من عهد مرسي، بل إن القرضاوي يرى الخروج على مرسي من الخوارج ولم يختلف مرسي عن مبارك في شيء إلا في الانتماء للتنظيم والتحزب للجماعة بل لم تظهر ملامح الدولة الإسلامية في عهده ولم تبرز شعائر الدين بل كانت هناك إخفاقات يخشى منها عليهم، والكارثة أنهم يسوغون ذلك لمرسي بحجة التدرج ويتشددون مع غيره في صورة أبعد ما تكون عن الإسلام، ونسي هؤلاء أن من جاء به الشارع وصناديق الاقتراع فلهما الحق إن لم يأت بالشروط التي تعاهدوا عليها في عزله ما دامت سلطته مستمدة منهما وبخاصة في ظل خيانة الشعب الذي أخضعوه لولاية المرشد وليس لسلطة الرئيس المنتخب....
إن ما يسمى بالمصالحة مع جماعة الإخوان المسلمين في هذا الوقت هو في حقيقته إنقاذ لجماعة الإقصاء ومناورة لتنظيم الاحتكار بعد أن فشلت تجاربهم وخابت مساعيهم في البقاء على المشهد بالدم والمظاهرات المسلحة والاعتصامات العنيفة والتخريب للممتلكات والتصفيات للمخالفين وتهييج الطلاب في الجامعات والبيانات الإرهابية، وهذه الاستراتيجية جزء من استراتيجيات المناورة، وثبت أنه يسعى لتدمير الوطن ويفتت مؤسساته ويعمل بالوكالة عن قوى خارجية تريد أن تهيمن على المؤسسات الوطنية ولا أدل من تسريب أسرار تتعلق بالأمن القومي المصري في أكبر فضيحة وطنية لموقف جماعة الإخوان المسلمين التي لا تجدي معها أي مصالحة وبخاصة أن الشعب المصري أعطى هذه الجماعة فرصة الحكم متناسياً كل ما مضى ومتحاملاً على جراحه لرسم مستقبل مزهر لأجيال مصر العريقة، تناسى كل تاريخ الجماعة وما أفرزته من جماعات التكفير والهجرة، تناسى كل ذلك ابتداء من قتل الخازندار والنقراشي وهم رؤساء وزراء في حكومات مصر قبل ثورة العسكرتاريا عام 1952م، وأكثر من هذا توثيق جرائمهم في كتاب الإخوان المسلمين بين الابتداع الديني والإفلاس السياسي للشيخ علي السيد الوصيفي، وأختم هذا المقال بجهود الرئيس السادات في بعث المصالحة مع أفراد التنظيم ومن عليهم بالخروج من السجن وسمح لهم بالمشاركة السياسية ولكن كانت النتيجة أنه قتل في حادثة المنصة بسبب التهييج والمواجهات والتأزيم الذي اتخذته الجماعة في الخطب والصحف وقامت به جماعة التكفير والهجرة التي هي من رحم الإخوان كأي جماعة إرهابية ثم يتراجعون ويعتذرون لمصر ويقولون: إن السادات مات شهيدا في تحدٍ سافر للإسلام وعبث في مدخرات الوطن واختطاف للرأى وهيهات تنفع المصالحة مع جاهل لا يعرف ولا يدرك ولا يعلم، ولذلك أجمل عبارة يمكن استعارتها للشعب المصري والنخب والأطياف كلمات أمل دنقل «لا تصالح ولو منحوك الذهب»...
والله من وراء القصد..