مصر مشكلتها الأولى لم تكن في تدني النمو الاقتصادي، وإنما كانت في الفساد المالي والإداري؛ فالنمو الاقتصادي إبان حكم الرئيس السابق حسني مبارك جاوز ما نسبته 6% كما تقول الأرقام، وهي نسبة معقولة، كان من المفروض أن تنعكس على الاستقرار، إلاّ أنّ هذه التنمية امتصتها بيئة من الفساد المالي والإداري كانت تكتنف أوضاع مصر من الداخل، هذه البيئة تكوّنت في عصر الرئيس أنور السادات؛ حينها كانت (القطط السمان) كما يسميها المصريون، تنتزع جزءاً من ريع الاقتصاد المصري، وتُجيره إلى مصالحها، وفي عهد الرئيس حسني مبارك، تحوّلت القطط السمان إلى (ذئاب سمان)، استحوذت على حصة تتضخّم مع مرور الوقت من مردود هذا الاقتصاد؛ وفي الوقت نفسه ترسّخت مفاهيم في المجتمع المصري، مؤداها أنّ (المنصب الحكومي) هو أفضل الطرق للثراء ؛ فانتشرت الرشوة، وتجذّرت، حتى أصبح من يريد أن يقيم كشكاً لبيع المرطبات على الرصيف، بطريقة لا يجيزها القانون، عليه أن يمر بمتنفذ حكومي صغير ويدفع له، ليقوم بحمايته، وهذا الصغير محمٍ من متنفذ أكبر، حتى يصل التركيب الهرمي للفساد إلى أعلى المستويات، ناسفاً في طريقه كل القوانين التي تهدف (نظرياً) إلى ترسيخ العدل والمساواة بين الناس، غير أنّ الواقع وما يجري على الأرض لا علاقة له بهذه القوانين .. ولأنّ بيئة مثل هذه البيئة الحكومية الفاسدة لا تشعر بالمتغيرات، ولا بالتذمر، لأنها معزولة عن الناس ، ومحاطة بقلة من المنتفعين، يهمهم بقاء الأوضاع كما هي عليه، ظن كبارها وصغارها معاً أن في مقدورهم تطويق ردود الأفعال الغاضبة بعصا السلطة، شريطة ألا تمتد يد الإصلاح إلى الأوضاع التي من شأنها المساس مباشرة بعامة الناس، كأسعار المحروقات والكهرباء مثلاً فتثيرهم .
ورغم ذلك ثار المصريون، وأرغموا مبارك على التنحي. ثم ثاروا ثانية على مرسي وانتهى إلى ما وراء القضبان.
ويبدو أن الرئيس السيسي يدرك هذا تمام الإدراك، وأن المعادلات التي توهّمت الأنظمة السابقة أن توازنها كفيل بتحقيق الاستقرار، كانت مؤشرات مضللة.
القادمون من القاهرة يؤكدون أن إرهاصات دولة الحزم والإصلاح والانضباط تبدو مطمئنة. وأن الانضباط بدأ من مكتب السيسي نفسه، ويمتد ليشمل كل المحافظات، وبالذات المحافظون الذين ينزلون إلى الشارع، ويراقبون تنفيذ القوانين وانضباط الناس بها عن كثب، كما أن أجهزة الشرطة وأجهزة الرقابة، بما فيها أجهزة أمن الدولة، والاستخبارات، لم يعد يعنيها (فقط) التجسس على المعارضين والغاضبين والمتآمرين، وتتبعهم، وانتهاك خصوصياتهم، ثم الكيد لهم لإسكاتهم، بقدر ما يعنيها أن تعكس حقيقة حالة الناس، ومكامن الضعف والتقصير في الأجهزة التنفيذية، وترفع بها إلى القيادة . إضافة طبعاً إلى استخدام عصا الحكومة الغليظة ليس لحماية المتنفذين وأساطين الفساد وإنما لضبط أمن الناس، وتجذير هيبة الدولة، واعتبار أن الأمن خط أحمر، سواء كان منتهكوه ساسة مؤدلجين، كعصابات جماعة الإخوان، أو من يسمونهم هناك (البلطجية) التي هي عصابات من المجرمين، تلجأ إليها الحكومات في السابق لتمرير بعض عمليات الفساد السياسي، مقابل أن تتيح لها العمل لابتزاز الناس بالقوة للإثراء غير المشروع.
قرار رفع أسعار المنتجات النفطية، ورسوم الكهرباء، الذي اتخذته الحكومة المصرية مؤخراً كان قراراَ إصلاحياً صحيحاً بكل المعايير، عجز عن اتخاذه جميع الرؤساء المصريين الذين سبقوه واتخذه السيسي؛ صحيح أنه أثر سلبياً على الشعبية (الكاسحة) للرئيس السيسي، إلا أنه كان قراراً لا يتخذه إلا من كان يعرف أن دولة الفساد وقراراً كهذا لا يجتمعان؛ فلا يمكن أن يقبل المصريون بتحمل تبعات هذه الزيادات في دولة متنفذيها وصنّاع القرار فيها فاسدون؛ لذلك جَبُن عن اتخاذ هذا القرار الإصلاحي الصحيح والمؤلم شعبياً كل الرؤساء السابقين، واتخذه السيسي بشجاعة؛ وكل المؤشرات تقول إنه سيمر ويتعايش المصريون معه.
مرور هذا القرار بأقل قدر من ردود الأفعال الغاضبة، يعني أن مصر تتجه في الطريق الصحيح فعلاً وليس قولاً.
إلى اللقاء.