يتبادر أكثر من سؤال عن أسباب عودة الدولة الدينية، وهل لذلك علاقة بقصور الثقافة الديموقراطية في العقل العربي، وهل كان التلاعب بمنتجاتها كالانتخابات والأحزاب العامل الرئيسي خلف الدخول في الفوضى الحالية!
في الفوضى يجتهد المؤدلجون في استثمار مبدأ الجهاد في الإسلام لإعادة تشكيل الخريطة العربية على أساس ديني، وقد كان الجهاد ضد السلطة الركن الأساسي في إعادة قيام الدول الدينية في تاريخ المسلمين، وذلك لمكانته في الدين، وقد يصعب حصر عدد النصوص التي ترفع من مكانة المجاهد في سبيل الله.
أيضاً يعد الجهاد ركناً أساسياً في رسالة الذين يسعون للاستبداد الديني والسياسي، ولكن كيف يحدث هذا في القرن الواحد والعشرين؟ وكيف عادت الدولة الدينية بعد مرور أكثر من مائة عام من ميلاد فكرة الوطن في تاريخ العرب الحديث..!
علينا أن نعترف أولاً، وأن نواجه حقيقة أن النكوص لفكرة الدولة الدينية في العراق وسورية كانت نتيجة للاستبداد الذي حكم به حزب البعث الناس في القطرين، الذي كان يقدم تنظيما مزيفا للتحديث والمدنية، فالمصطلحات كانت حداثية في شكلها العام، وكان النظام يمارس بعض الإجراءات الحديثة في صورة هزلية بحتة، وكان يسمح بتنظيم صوري للانتخابات ولآليات المجتمع المدني والأحزاب، لكن الأمر في حقيقته كان استبدادا لاستئثار الحاكم وعشيرته بمقدرات الأوطان.
كذلك كان الحال في سورية، فالصورة الخارجية كانت تزدان بعناوين مدنية حديثة مثل المواطنة وحقوق الإنسان وانتخابات برلمانية ورئاسية، لكن الأمر كان برمته استبدادا ودكتاتورية شمولية، ويعمل فقط من أجل مصالح طائفية وفئوية خاصة، بينما يعاني البقية من آثار الاستبداد والظلم الاجتماعي، فكانت العاقبة ما يحدث من فوضى، واقتتال بين أيدلوجيات متنافرة.
ويبدو أن الفوضى مرشحة لأن تكون أكثر مأساوية في ليبيا، ويعود ما يجري هناك لسبب رئيسي هو محاربة الثقافة الديموقراطية في زمن النظام السابق، التي ليست بالضرورة تعني تداول السلطة المطلقة، ولكن تعني المشاركة والإقرار بمبدأ تداولها تحت رقابة سلطة عليا على أساس مدني بحت، وقد يكون بعض القدر من الثقافة الديموقراطية في مصر وتونس عاملاً وقائياً لعدم الدخول في الفوضى.
لو استثمرت تلك الأنظمة في إصلاح العقل السياسي للمواطن في تلك المجتمعات، لربما تأسست مبكراً ثقافة ديموقراطية سلمية بين الفئات المكونة لتلك المجتمعات، ولو خدموا أوطانهم مثلما خدم غاندي الهند، ومانديلا في جنوب إفريقيا، لربما حدثت الخطوة المطلوبة للانتقال من الماضي إلى الحاضر، أو من الدولة الشمولية إلى المدنية.. لكن استبدادهم وتلاعبهم بمصالح الأوطان ورسالتها واستخدامهم مصطلحات الحداثة من أجل الاستحواذ على مقدرات الأوطان قاد إلى الكفر بالحداثة وأفكار المجتمعات المدنية، ومن ثم العودة عشرة قرون إلى الخلف من أجل إعادة الدور الديني في بناء الدول في التاريخ العربي.
لن يكون إصلاح العقل السياسي للمواطن مهمة مستحيلة، فتعزيز الثقافة الديموقراطية وإقرار مبادئ حقوق الإنسان من خلال قوة القانون والقضاء المستقل يمهد للانتقال إلى مراحل أخرى، كذلك يؤدي إشعار المواطن بأنه شريك حقيقي في الثروة والقرار إلى كسب ولاءه للوطن، وأنه ليس مجرد تابع على الهامش.
بينما تزيد ممارسات العمل المدني والتنافس على تقديم برامج تنموية مدنية من فرص التعايش وقبول التيارات الأخرى ضمن برامجها، وأخيراً يساهم العمل على تقديم شرعية الدولة للناس على مبادئ الاختيار والمشاركة في نفي العنف، بينما يؤدي تقديمها على أنها تقوم على القمع إلى اتباع أساليب القوة والقتال لمقاومة الاستبداد بالاستبداد..