ظاهرة داعش لم تكن الأولى في عصرنا الحديث، ولن تكون الأخيرة، وربما لن تدوم، ليأتي بعدها دواعش جدد، ونسختها الآن موجودة في أكثر من مكان عربي وإسلامي، ظهر بعضها على السطح، وما زال البعض يتوارى تحت الثرى، داعش ليس نتاج عام أو عامين أو حتى عقود من الزمن، وإنما تراكم عقود، لكن هناك الكثير من العوامل التي جعلتها تتسارع في الآونة الأخيرة، منها انتشار وسائل الإعلام المرئي والمسموع، فهناك الكثير من القنوات الفضائية التي تحمل بين ثناياها التحريض على الكراهية، والتكفير، حتى وإن لم تصرح بذلك، وهناك من يصرح به تصريحا ظاهرا، وهناك من يبث من المشاهد ما يشجع الصغار على تبني ذلك الفكر غير السوي.
أدوات وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت غير مسيطر عليها، تبث ما تشاء متى ما تشاء وبالأسلوب الذي تراه يحقق مقاصدها، وهذه الأدوات كثيرة ومتنوعة ومتاحة للجميع، وسهلة الوصول إلى كل عقل في زمن أصبحت السرعة فيه لا يمكن حسابها.
الناس في هذا الزمان ثلاثة أصناف كما وصفهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فهم عالم ومتعلم ورعاع وراء كل ناعق، فهناك علماء خيرين ينبذون العنف وينهون عنه، وهناك آخرين يبحثون عن العلم هنا وهناك، وهم في حيرة من أمرهم لا يعرف لهم وجهة بذاتها، وهناك من العلماء من قد تشرب بالفكر التكفيري الضال، ولكنه يخشى البوح به مراعاة لمصلحته، أو خوفا من العواقب الآتية كما يراها، وأما الصنف الآخر من العلماء فهم أولئك الذين آمنوا بالضلال، ورأوه صوابا أو لم يروه صوابا لكنهم لبسوه لغايات دنيوية، ومقاصد بعيدة تخدم مصالحهم، ولا شيء غير ذلك، وهذه الفئة هي الأخطر، فمنهم من أعطاه الله حلاوة اللسان مع شيء من العلم، ويستطيع أن يحرف الكلام عن مواضعه، فيلحقه أولئك الرعاع الذين لا يميزون بين الغث والسمين، والسيئ والحسن، وهم جاهزون لإتباع ما يقودهم إلى ما يريد هو لا إلى ما يرومون.
ومع تناثر الفتيا هنا وهناك، وتنوع مصادرها، ومسندها، ومرجعها يكون التنوع في الفكر، تنوع لا يثري.
إنما يؤدي إلى تقاتل وتناحر، لأن ذلك التنوع لم يكن تنوعا ثقافيا ثريا وإنما كان تنوعا داخل بوتقة واحدة وهي السخط من كل شيء على كل شيء.
هناك قيادات ورموز لها أتباع غير قليل، كان البعض منها يعيش بيننا، ومن العجب أن كل رمز من هذه الرموز يحمل فكرا تكفيرا لرمز آخر مماثل له في الاتجاه والمنحى، وسيستمر كذلك طالما أن أهدافهم الخاصة لم تتحقق لأن الغاية ليس نشر الفكر فقط، وإنما يستخدم هذا الفكر لتحقيق مآرب أخرى، ربما تفوق في الحرص عليها والحرص على نشر الفكر ذاته.
في خضم هذه المعطيات وجب علينا جميعا التماسك والتعاون على حفظ أمن الوطن وحمايته من الأفكار الضالة.
وأول ما يكون ذلك في المنزل والمدرسة وأسى المنزل الأم، فإذا كانت الأم تحمل فكريا معتدلا وسطيا ففي الغالب فإن الطفل ينشأ نشأة صالحة متوازنة، أما إذا كانت الأم تحمل بجهل منها أو بعلم فكريا غير وسطي فإن الطفل ينشأ متأثرا بذلك التوجه، ومن بعد ذلك سينساق نحو أصدقاء جلهم يحملون فكرا غير سوي.
إننا في أمس الحاجة إلى التلاحم والتوافق والعمل السوي في الحفاظ على الأمن والبعد عن التفرقة سواء بحجة السعي للإصلاح الإداري والاقتصادي أو غير ذلك من الأسباب التي يتعلق بها البعض.
نحن نحتاج إلى الإصلاح ولاريب، وإلى تحسين أدائنا الاقتصادي والإداري بأسرع وقت ممكن، لكن تلك المتطلبات يجب أن تكون في حدود ما تسمح به الظروف الآنية، التي يستوجب فيها التلاحم للحفاظ على أمن الوطن، الذي يحتاجه الجميع، وليس فئة دون سواها.
حمانا الله وإياكم وكفانا شر الذين يخفون الكثير من المآرب متلبسين بلباس في ظاهره جميل وفي باطنه غير ذلك.