القرآن الكريم لم يترك شاردة ولا واردة في السلوك الإنساني إلا وتطرق لها بأسلوب مجمل أو مفصَّل، وقد تقع تترا أو متفرقة طبقاً للسياق، ومن قرأ القرآن بتدبر لا بد أنه سيقف عند الكثير من تلك المعاني العظيمة، ويُسائل نفسه إن كان صادقاً معها، ويستعرض صحيفته العملية، وممارساته الفعلية ويكون منصفاً في حكمه على نفسه.
ففي وصايا لقمان لابنه ابتدأ بعدم الشرك بالله لأن ذلك هو أساس الإيمان، ومن ثم التحلي بالسلوك الإيماني الذي لا يأمر إلا بخير للبشرية جميعاً سواء للفرد أو للجماعة، ويتبعها في وصيته بالوالدين، وحمل الأم له ورعاية الوالدين لابنهما حتى يكبر ويرشد، ويردفها بالحثّ على الصلاة، ودعاء الباري عز وجل والإلحاح في ذلك، والثقة في أن الله سيستجيب، وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ذلك لا يأتي إلا بالصبر، ولهذا الأمر أساليبه، ووسائل إقناع الناس بالحسنى والكلمة الطيبة التي تصل إلى القلب مباشرة.
وأتبعها بأن لا يصعّر الإنسان خده للناس فيضحى ذليلاً، وعلى ألا يصاحب ذلك تعالٍ وخيلاء وفخر لأن ذلك مما لا يحبه الله، ولو توقفنا عند هذه الوصية العظيمة لوجد البعض منا إن لم يكن الأكثر، قد وقع في إحدى الخصلتين إما إذلال النفس وتصعير الخد، أو التكبر والتجبر والخيلاء والافتخار مع أننا جميعاً نمر على هذه الوصية العظيمة وندركها، لكننا مع الأسف لا نمارسها كما أمرنا الله بذلك والبعض يمارسها بتجبر، ويرفع صوته على من حوله، وربما يستخدم كلمات لا تليق، لا سيما عندما يخاطب أولئك العاملين معه في المنزل من سائقين أو خدم، أو حتى الذين يعملون معه في المكتب بمراتب أقل، جعلنا الله ممن لا تنطبق عليه الآية الكريمة في سورة (الإسراء).. وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ، كم قلنا من أفٍ وأكثر وأكبر من أفٍ لهما ومع هذا فهم يدعون لنا بالهداية والصلاح ويتسامحون على ما بدر منا، وقلوبهم تخفق عندما يلم بنا أمر عسير، ويفرحون عندما يحل بنا خبر مفرح، فيا رب لا تُؤاخذنا بما فعلنا وارحم والدينا الذين توفاهم الله، واسبغ الصحة والعافية على من والديه على قيد الحياة، يقول عز وجل: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) سورة الإسراء، أين منا التذلل لهم، ولا أخال البعض بل الكثير من الآباء يتذللون للأبناء خوفاً من غضبهم، وسخطهم، حتى إن بعض الآباء يتحاشون نصيحة أبنائهم لأنهم يعلمون سلفاً أن الأبناء سيردون بما يسخطهم والعياذ بالله.
وفي السورة ذاتها يقول جل جلاله: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (26 -27) سورة الإسراء، نعم فللقربى لا سيما المساكين منهم حق لا جدال فيه، بالإضافة إلى المساكين من الناس وكذا عابري السبيل الذين لا يجدون ما يطعمون أو مكاناً يأوون إليه، لكن ومع الأسف أن صلة الرحم لم تكن عند البعض إلا للمظاهر رغم أن الأولى أن يتحرى المرء المحتاج من أقربائه ليصلهم بماله أو جاهه قبل أن يطلبوا منه ذلك، وأن يُوصلها إليهم بطريقة لا تجرح مشاعرهم، وفي الآية نفسها ينهانا العلي القدير عن التبذير، والإنفاق غير المتوازن، ولن أضرب أمثلة على ذلك المستوى من التبذير سواء في العطاء أو المأكل أو المشرب أو الملبس أو المركب، حتى لو أن ذلك يتجاوز حدود ما هو متاح لأن الغاية تخرج من الحاجة إلى المفاخرة على الأقرباء مع الأقران، وهذا مغاير بين ما تأمر الآية به من بر الأقرباء لا سيما المساكين منهم، وبين الإنفاق لمجرد المنافسة لقرين قريب لديه مال يستطيع إنفاقه في المنافسة التي لا طائل منها، وطالما أننا على أبواب الإجازة الرمضانية، فإن هذه الظاهرة الغريبة ستظهر جلية عند أولئك الذين سيركبون الطائرات إلى بلدان ألفوا الذهاب إليها ليبدأ مسلسل التنافس والتفاخر خلافاً للأمر الرباني إلا ما رحم الله.. يقول الكريم: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (29) سورة الإسراء، وهذا الأمر، الإلهي بالتوازن أمر عظيم لعلنا نتذكره عند إنفاقنا، ويقول تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (30) سورة الإسراء.. وما أعظم هذا القرآن فإن ما بسطه الله من رزق هو أعلم به وبمشيئته سبحانه وهو الأخبر والأبصر بعباده، وبما يصلح حالهم.
وفقنا الله وإياكم إلى تدبر القرآن والعمل به.