بعد أن قرأنا خطاب الملك -حفظه الله- وتمعنا فيما أشار له من عبر، وما حذّر من فتن ومهالك تنتظر، ونبّه لأخذ الحيطة والحذر، بات علينا أن نتمعن فيما يجب علينا كمواطنين و كمسؤولين من علماء دين وأدباء وأرباب كلمة وموظفين مدنيين وعسكريين. في اليوم الذي قرئ فيه خطاب الملك، وفي مجلسه التفت معاتباً من حوله بأنه هناك كسل ووهن في التصدي للفكر الضال، والذي كان سبيل تفريخ عناصر الإرهاب الذي أصبح على تخوم بلادنا، عتاب الملك هو امتداد لخطابه، وفي الخطاب والعتاب تفويض مطلق لكل مسؤول أن يبدع في وسيلة تساهم في دحر هذا الفكر الضال ودحر الإرهاب بصورة عامة. فلم يَعُد تحذير المؤدلجين وزارعي التطرف والغلو من التمادي فيما هم فيه مجدياً، ولم يَعُد الوعظ والتخويف من غضب الله على مخالفتهم مصالح الأمة وعصيانهم ولي الأمر مؤثراً في ثنيهم على ما انعقدت عليه هممهم. ولم تَعُد المناصحة كافية لوحدها لإزالة ما تأصل في أفكار بعض المغرّر بهم، فنحن اليوم بحاجة لحملة وطنية شاملة ومنظمة ومتضافرة لمكافحة الغلو والتطرف والكراهية. هذه الحملة يجب أن تشمل المنزل والمسجد والمدرسة والشارع وجميع ميادين المجتمع، و أن لا تعتمد على النصح والإرشاد والوعظ والدعاء على الضالين فقط، بل يجب أن تشمل القوانين والأنظمة والمناهج التعليمية ووسائل الإعلام والألعاب.
الإرهاب هو ظاهرة مرت بها شعوب كثيرة وهي ظاهرة تلازم عملية البناء الحضاري، فلا شك أن عملية البناء يصاحبها تفاوت في الفرص والإنجازات، فيفوز ذوو الحظوظ والجهود ويتخلّف ذوو الكسل وقليلو الحيلة، هذا التفاوت يخلق إحباطات وغيرة واتهامات بالاستبداد من ذوي الحظوة، وتتحول هذه إلى طموحات شاذة، بعضها يسلك الجريمة منهجاً فتكون تجارة الممنوعات من المخدرات والمسكرات والموبقات الأخرى وبعضها يسلك طريق التطرف في الدين فيستهوى بعض الجهلة والمحبطين، وحيث تأسس في المجتمع أدوات مكافحة الجريمة، ووضعت الدولة قوانين شديدة تستجيب للحاجة في دحرها، فقد أصبحت الجريمة تحت السيطرة بكافة صورها، أما التطرف الديني ونتيجة لحساسية المجتمع في التعامل مع الغلو في الدين وإحساس البعض أن ذلك نوع من الورع، فقد غضت العين عن ذلك الغلو وترك حتى ازدهر في أوساط المجتمع وتأصل بصورة أفرز له شيوخ وبات له أدوات وجمعيات وأموال، والغلو في الدين من منظور اجتماعي لا بأس به، طالما أنه مقتصر على سلوكيات صاحبه «فكل نفس بما كسبت رهينة»، ولكن عندما يتضافر الغلو ويتطرف فإنه ينتج الكراهية للمختلف سواء كان مختلفاً مذهبياً أم مخالفاً لمنهج الغالي في الدين، والكراهية إذا جاشت في النفوس تدفعها للتهور، وهذا ما يحدث في كثير من أوساط أصحاب الغلو، فهم يجندون صغار السن من المراهقين ويغذون عقولهم بالكراهية حتى تجيش في نفوسهم فتضيق بهم الأرض بما رحبت، حتى يوجهوا لقتال المختلف ويسمون ذلك جهاداً، فالغلو الذي ينتج الكراهية هو ما يدفع للقتل وقص الرؤوس والتمثيل بها بدم بارد.
زرع الكراهية هي المرحلة التي لابد للمجتمع والدولة من إجهاضها وتحجيم أثرها، وهذا لا يكون بالحديث والوعظ فقط، فلابد من صياغة نظام صارم وملزم يجرم الكراهية بين المواطنين، ويشدد العقاب ولا يكتفى بالسجن فقط، بل يجب أن يجرّد من يشيع الكراهية من كل وسيلة تمكنه من ذلك فتصادر وسائله ويحجر على أمواله وتفضح مآربه، وأن لا يستثنى من ذلك أحد كائن من كان، وبجانب القانون الصارم يجب أن يحصن المراهقون والشبان من تأثير المؤدلجين، وتصبح التوعية المدرسية الهادفة للتحذير من الغلو ونبذ الكراهية نشاطاً يومياً، ولابد أن لا تقتصر التوعية على نشاطات المدرسة بل يجب أن تتعدى ذلك فتكون جزءاً من البرامج التلفزيونية والإذاعية اليومية، فلابد من محاصرة الغلو حتى يترسخ في الأذهان الضرر المحتمل لكل من يمارس الكراهية، وأن يصبح هناك رسالة اجتماعية سائدة تحث على التسامح والتعايش بين مكوّنات المجتمع، وتؤكد على أن الاختلاف هو حقيقة يجب اعتبارها تنوعاً وليس خلافاً, فالوطن حق لجميع مكوناته بحقوق متساوية.
اليوم نحن أمام مستقبل مبهم يحمل في ثناياه دواهي ومصائب لا نعلم حجمها طالما هؤلاء الغلاة المتطرفون يعيشون بيننا، وإذا لم نتحرك ونكافح الكراهية التي باتت تعشش في الأذهان والأوكار، وبات لها شيوخ في كل مكون من مكونات مجتمعنا، هذه الكراهية هي عدونا جميعاً فالكراهية طاقة قاتلة، لا يحملها إلا من هو جاهز لممارستها، وعندما يكره المجتمع بعضه بعضاً فلن يكون بخير، ومن يعتقد أن الكراهية وسيلة لسيادة فريق على آخر فهو واهم، ولكن أملنا في أن تقوم الحكومة بوضع إجراءات سريعة تعالج الخلل الذي جعل الكراهية تنمو في مجتمعنا المسالم.