أثارت بعض التغريدات والمقالات عن داعش وعلاقتها بالسلفية الرأي العام، و هل حراكهم السياسي والديني فيه محاولة لإعادة تطبيق دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب في القرن الحالي، والتي من علاماتها ان يُدرسوا كتب الشيخ -رحمه الله- في مدارس التعليم الديني، ثم فرض عقيدة التوحيد على المخالفين بالإجبار، وذلك لتصحيح عقائدهم، بالإضافة الى عدم الاعتراف بالحدود وإطلاق الجهاد.
في ظل هذا التراشق الثقافي، اكملت قراءة كتاب عن الدعوة الوهابية والمملكة العربية السعودية الذي ألفه ديفيد كمنز، وقام الدكتور عبد الله بن إبراهيم العسكر بنقله للعربية، وقد كان كتاباً مختلفاً، إذ نقل من المصادر الاختلاف الذي وصل إلى المواجهات بين علماء الدين حول مسلمات الدين واحكام التكفير واحكام السفر للخارج والتعامل معه، وغيرها خلال المراحل الثلاث للدولة السعودية.
تميزت الدولة السعودية الأولى بأصولية دينية محكمة، وبتطبيق صارم لاجتهادات الشيخ رحمه الله في محاربة الشرك و اهل البدع وقتالهم حتى يتبعوا الملة الصحيحة، وبمنع السفر لبلاد الوثنيين، وانها دولة الإسلام، وخارجها هو الوثنية، وكانت نهايتها مأساوية بعد تدمير الدرعية من قبل قوات محمد علي باشا، بعد أن فشلوا في التعامل مع شؤون الدنيا وأغراضها وصداماتها، وبعد أن قرروا أن يستمر قتال الآخرين حتى يؤمنوا بالدين الصحيح دون إدراك لفلسفة القوة وحكمة السياسة.
في الدولة السعودية الثانية كان الصراع كبيراً بين علماء الدين حول العلاقة مع الخارج، وحدث هجرات وتمرد من قبل بعض المناطق ليس على الإطار السياسي، ولكن على الاحكام الدينية التي تمنع السفر إلى بلاد الوثنيين وتحرم التواصل مع الخارج، وكان السبب ان بعض المناطق تعتمد في حياتها على الترحال والتجارة، وباختزال شديد لم تكن الصورة العامة في المرحلة الثانية متطابقة مع الاولى، فقد بدأت نوعاً ما من مسيرة قبول الرأي الآخر في تلك المسائل.
كان الانفراج الأكبر على يد مؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبدالعزيز رحمه الله، وقد قاد مرحلة إصلاح بعد إكمال مرحلة التوحيد، وكان منها ان الحاكم الشرعي هو صاحب القرار النهائي، وكان منها ايضا بدء مرحلة العلاقات مع الخارج واستقطاب العقول العربية، والتعامل مع الخبرات الاجنبية للتنقيب عن الثروات، والاستعانة بالخبرات الإدارية في بناء الدولة السعودية الثالثة..
لكن الأهم هو إيجاد صيغة غير معلنة للتعامل مع الفرق المخالفة لدعوة التوحيد مثل الصوفية والشيعة، والتي كان علماء الدعوة يطالبون بفرض العقيدة الصحيحة عليهم قسراً، وإلزامهم بالمنهج الصحيح او قتالهم، فكان الحل على طريقة « لا تسأل ولا تخبر «، وكان من أهم علامتها القبول الظاهري من قبل المرجعية الدينية السلفية بتلك التحولات، وبقول فكرة تطوير الفكر الاقتصادي..، لكن ذلك لم يتم إقراره منهجياً، ولم تخرج اجتهادات دينية تؤصل تلك التحولات التاريخية في الدعوة الدينية.
حدثت أيضاً تطورات كبرى في التنمية وفي العلاقة مع الخارج، ودخلت البراغماتية السياسية إلى المنهج، وكان من نتائجها انحسار التواجد الإعلامي للفكر الاصولي الذي حكم الدولة السعودية الاولى في الخطاب السياسي العام، فقد تلاشت تماما الصراعات الدينية بين المناطق بعد قبول فكرة الدخول إلى العصر الحديث، لكن التعليم الديني المتزمت استمر في تلقين الاتباع اجتهادات المرحلة الاولى من الدعوة على الرغم من المتغيرات الكبرى، وان من الواجب الديني كراهية المخالفين وعدم مخالطتهم وفرض العقيدة الصحيحة عليهم.
كانت الفتاوى تقوم بدور هام لتلقين الدعوة الاصولية، وكان ذلك بمثابة القنبلة الموقوتة في العقل السلفي في الدولة السعودية، والتي انفجرت في وجه الدولة في حركة جهيمان، والتي طالبت بعودة الدولة إلى احكام واصول الدولة السعودية الأولى، وقد كان لذلك تبعات ورضوخ انتهت بعودة الفكر السلفي المتزمت إلى الواجهة، ومطالبته برفض البراغماتية السياسية ومحاربة الكفار والمشركين وعدم الاستعانة بالاجانب..
كان تأثير الإخوان المسلمين سياسياً بامتياز، إذ يختلف المنهج السلفي عن الاخواني في المنهج والعقيدة، ولكن الاخوان المسلمون نجحوا في نقل الفكرة السياسية إلى قلب المنهج السلفي المتزمت، وكانت تاثيرات تيارات التكفير والهجرة كبيرة في أفغانستان، وكانت النتيجة خروج مارد سلفي جهادي، يعتبر التطورات والمتغيرات والمكتسبات السياسية والاقتصادية التي حدثت على الارض خروجاً عن المنهج الدعوي، والمطالبة بالعودة إلى القرن الثامن والتاسع عشر ثم التقوقع داخل حراك ديني متزمت لا يقبل الطوائف الاخرى، ويرفض اي اختلاف ديني في الرأي الشرعي، ويفتح ابواب الجهاد ضد المخالفين، ويحرم السفر إلى بلاد الوثنيين..
باختصار: نعيش أزمة حقيقة، من اهم اسبابها الهروب من مواجهتها ثم الاعتراف بتحدياتها، بالإضافة إلى عدم خروج اجتهادات دينية تصحح بعض الاحكام التي ادت إلى سقوط الدولة السعودية الأولى، والتي تم تصحيحها بقوة القرار السياسي من قبل المؤسس رحمه الله، في حين لم يحدث تطور في التعليم الديني، والذي استمر يلقن الاحادية المفرطة، و التي لم تنجح سياسياً في المحافظة على الدولة في بداية القرن التاسع عشر..
ختاماً: يجب ان لا نكابر في نفي العلاقة بين ما يحدث من تمرد سلفي عنيف، وبين الإرث السلفي الذي كانت بعض أحكامه ضد التطوير، وضد العلاقة مع الخارج، وضد التعليم الحديث والعلاقات الدبلوماسية، وكانت ايضاً حديتها محل اختلاف كبير بين علماء الامة، ونحن الآن امام مفترق طرق، وهو إما الرضوخ لذلك الفكر، او الانطلاق نحو التحديث والتطوير في كل المجالات، لكن الوقوف في منتصف الطريق سيعرض المجتمع لانتكاسات كلما تقدم قليلاً في مسيرته التنموية.