أعظم الولاء هو ولاء الأيدولوجيات، دينية كانت أو مذهبية أو فكرية. فمتى أمن الإنسان بأيدولوجية ما، رخص دمه وماله وولده ونسبه ووطنه في سبيلها. فالأيدولوجية تقلب الفطرة البشرية في سبيل نصرتها. فتجعل صاحبها المؤمن بها يرى الخيانة هي الأمانة والغدر هو الوفاء والخسة هي الكرامة. والأيدولوجية تنزع من فطرة معتنقها الرحمة الفطرية بأبيه وولده فيستحل دمهما في سبيل نصر أيدولوجيته. فالأيدولوجية تعمي صاحبها -المناضل دون العدالة في نظره- عن رؤية المظالم والانتهاكات وآلام البشر. فأيدولوجيته تجد لكل فاحشة تبريرا وتقلب كل فطرة إنسانية سوية إلى فطرة حيوانية مقيتة.
وحي هذا المقال هو سيرة هنري وايت، متوج الدولار على العرش النقدي العالمي، والمُساهم الأكبر في الإجهاز على الإمبراطورية النقدية والتجارية البريطانية، وفارس تنصيب أمريكا إمبراطورية النقد العالمي دون منازع، وما يتبع هذا من ترسيخ سياسي واقتصادي عالمي.
أمن هنري وايت بالاشتراكية فخان بلاده فأصبح عميلا روسيا قدم خدمات تاريخية لروسيا لا تقدر بثمن قد تصل إلى حد أن يكون السبب في بقاء روسيا وانتصارها في الحرب العالمية الثانية. ولم تكن خيانة هنري وايت لأجل مال ولا دنيا، فهو اشتراكي عقيدة وإيمانا، لو قدم له الروس مالا، لاهتزت ثقته باشتراكيتهم وانقلب عليهم. فلم تُسجل على وايت تلقيه لأي مكافأة مالية من الروس أو حلفائهم، اللهم أنه قَبِل أن يتدخل أحدهم بشفاعة من أجل أن تحصل ابنته على التكاليف الدراسية الجامعية، كما كان يقبل بعض الهدايا الرمزية التي تمثل تقديرا لجهوده الاشتراكية.
كان إيمان وايت هنري بالاشتراكية نابعا من مثاليته في نشد العدالة الاجتماعية. ولم يكن وايت بدعا من قومه. فقد كان هناك مجموعة لا بأس بها من الحمقى المُضللين - على حد تعبير الشاهدة - بمثالية العدالة الاجتماعية الاشتراكية من المسئولين الحكوميين الأمريكان الذين يعتبرون أنفسهم من الموالين والمخلصين لأمريكا (مثلما كان اعتقاد هنري وايت). وكانوا قد قدموا معلومات كثيرة للاتحاد السوفيتي وخاصة أثناء الحرب العالمية الثانية.
وكمثل انتشار الصحوة عندنا في بلاد المسلمين واختلاف سلوك الناس تجاهها وغلوهم أو توسطهم، فالاشتراكية في تلك الحقبة الزمنية كان لها قبول وانتشار وتبني من شريحة واسعة من جميع الشعوب والأمم. وعلى قدر زيادة قوة إيمانهم بالاشتراكية، على قدر عظم ما أتت به خياناتهم. فمن القيام بأعمال تجسس واغتيالات خطيرة، إلى معرفتهم لعميل ولم يبلغوا به، إلى الإعجاب الشخصي بتضحية هؤلاء العملاء، إلى التردد القلبي السري في الحكم عليهم بالخيانة.
استغل الروس قوة تأثير وايت على قرارات واشنطن فاستخدموه ليمارس تأثيره على كثير من قرارات التعيين والإجراءات الدبلوماسية والمالية لتصب في مصلحة الأجندة الروسية. فقد كان لوايت تأثير كبير على قرارت القوى في واشنطن، سواء بآرائه الإبداعية ووصاياه المسددة، التي كانت تتبنى من غير نسبتها إليه من قبل أن يلمع نجمه في برتن وود، أو بعد ما حظي وايت بالثقة المطلقة في آرائه وتوصياته. حتى أمر وزير المالية بعدم مناقشته في إجراءاته، وجعله في منصب مساعد وزير المالية للشئون الخارجية والذي كان منصبا دبلوماسيا واقتصاديا شديد الأهمية آنذاك.
ولكن أخطر تهمة متهم بها وايت هي تسببه المقصود في ضرب اليابان لميناء بيرل هابر الأمريكي، والذي قُتل فيه الآلاف من الجنود الأمريكيين، منهم أكثر من ألف من بارجة واحدة من الثمان بوارج التي دُمرت ذلك اليوم بالإضافة إلى السفن والطائرات.
فقد رفع وايت خطابا للرئيس الأمريكي احتوى على خطة طريق لتجنب المواجهة مع اليابانيين قبل دخول أمريكا الحرب العالمية الثانية، وكانت أمريكا تمارس الحصار الاقتصادي على اليابان - ماعدا منع النفط. فاستدعى الروس هنري وايت وأطلعوه على تطلعات اليابان وتجهيزاتها لغزو روسيا، ومارسوا عليه من الألاعيب الاستخبارية وأسموا عمليتهم الاستخبارية هذه باسم «عملية الثلج» نسبة لاسم وايت أي الأبيض. فاستُخف بهنري وايت، فخشى على الاشتراكية فألحق وايت خطابه الأول بخطاب آخر مُعدل أضاف فيه مطلبا أمريكيا، كان يُدرك وايت بأن اليابانيين لن يقبلوا به، وكان هو القشة التي قصمت ظهر البعير. فلم يكن قرار ضرب اليابانيين لميناء بيرل هاربر الأمريكي ناتج عن تصرف أمريكي واحد ضدهم، إنما كان عبارة عن بالونة انتفخت ثم انتفخت حتى فجرها المطلب الأمريكي الأخير، فقرروا ضرب أمريكا بدلا من روسيا، وهكذا أراد الله أن تجري الأحداث، وما حدث بعد ذلك.
وخارجا عن غرض المقال في تبيين خطر الأيدولوجيات على الأمم والأوطان، ففي رأيي الشخصي، وسواء أكان وايت عميلا روسيا خطيرا لهذه الدرجة أم كان مجرد مؤمن بالاشتراكية، فإني لا أستبعد المكر البريطاني في تلفيق هذه التُهم بوايت بعد وفاته. فهنري وايت هو من غلبهم وخدعهم في برتن وود ثم ضغط عليهم بعد ذلك. وهنري وايت هو من مارس بدهاء استغلال وضع بريطانيا الاقتصادي، وتسبب في قرارات مُسددة تحقيق توجهات روزفلت والإدارة الأمريكية بمحو أي أمل للبريطانيين في الإبقاء لهم على أي من مزايا إمبراطوريتهم الزائلة، بل لعل هنري وايت تعدى التوجهات الأمريكية بمحو الأمل الإمبراطوري البريطاني إلى محو ذكرى الإمبراطورية عن مخيلات البريطانيين المفاوضين. فقد كانت ضربات وايت السياسية الاقتصادية للبريطانيين أبعد من طلب واشنطن، وأقسى تنفيذا وأشد دهاء. فباعتبار هذا واعتبار حرص بريطانيا على إدخال أمريكا الحرب واتهامها بذلك، فلا يُستبعد -في نظري- أن بريطانيا برأت نفسها بأن ثأرت لنفسها من هنري وايت مُستغلة ميوله الاشتراكية. فعندما أخبر روزفلت تشرشل بفعلة اليابانيين في بيرل هابر، قال تشرشل «يا لها من هولي كوست» أي شبهها بالمحرقة اليهودية. وفي خاصة مجلسه قال تشرشل «يالها من رحمة، هذا أعظم حظ حصل للإمبراطورية البريطانية في جميع تاريخها، أخيرا دخلت أمريكا الحرب، وقد ذهبت للسرير فنامت نومة الآمن الشاكر».
فأيما كانت حقيقة دور هنري وايت في مساعدة الروس، إلا أن حبة خردل من خيانة الأوطان لا تبررها أي مبررات فكيف إن كانت الخيانة أكبر من مثقال حبة خردل. ومجرد ميول هنري وايت الاشتراكية - وهي عدوة بلاده الأول-، تعتبر خيانة أعظم من ألف مثقال حبة من خردل لا حبة واحدة. فما من خطر أعظم على الأوطان من الأيدولوجيات، تقلب فطرة أصحابها فتبرر لهم خيانة أنفسهم فيخونوا الأوطان والشعوب والأهل والتاريخ.