عوامل كثيرة هي التي أدت بمجموعها إلى تخلف المسلمين فكريا ومن ثم تخلفهم حضاريا واقتصاديا وعسكريا. ومن السهل سرد هذه العوامل سردا ولكن من الصعب تعقبها لمعرفة جذورها وأسبابها من أجل تشخيص علاجها. فأكثر هذه العوامل علاجها يتركز فقط في معرفة أسبابها وفهم آثارها. فمن السهل مثلاً أن نقول إن الاتكال على وعود نصر الله القادمة وجعل القدر شماعة الأخطاء هو من أسباب الاتكالية السلبية الداعية للكسل والمعطلة للفكر والابداع.
ولكن من الصعب شرح لماذا عملت هذه العوامل عملها السلبي في المسلمين بينما لم تتمكن من نفس العمل في الأمم الأخرى. فغالب الأمم عندهم ما عندنا من هذه المسكنات المخففة للمصائب، سواء أكانوا أتباع دين معين أم دين مطلق. إذا فليس الحل في سرد العوامل، بل في تحليل أسبابها وأصل نشأتها لكي نستطيع علاجها إذا ما أدركناها. فهذه العوامل كلها عوامل نفسية لا شعورية علاجها يكون فقط بإخراجها من حيز اللاشعور ووضعها في حيز الشعور والإدارك.
ونظرية المؤامرة هي أحد العوامل التي أدت إلى تخلف المسلمين. فهي من العوامل النفسية اللاشعورية التي خلقت في المسلمين الإحباط واليأس، والشلل الفكري وتسطيح الفهم وسذاجة المنطق. فقد جُعلت نظرية المؤامرة هي التي تُصرف الأمور وكأنها هي القدر لا راد لها. وأذكر عندما كنت صغيراً، كان لا يخلو حديث بين الكبار إلا ويتضمنه حديث عن الصيهونية ومؤتمرهم السري، الذي لا تقع مصيبة صغيرة أو كبيرة في المسلمين - حتى فشل طالب في دراسته- إلا وقالوا هي من تخطيطات مكرهم. ونظرية المؤمرة سلاح إرهابي فكري فعال، يشل العقل والجسم. وشاهده قوله تعالى {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} وقوله عليه السلام «نصرت بالرعب مسيرة شهر».
ولا يُستبعد أن هناك من يروج لها، كنشر عمالقة الإعلام لهرطقات بعض مهلوسي الغرب بنظريات المؤامرة. وكما تفعله هوليوود، عن قصد وغير قصد، في بعض أفلامها. ولكن هلوسة المسلمين بنظرية المؤامرة هي مرض نتج عنه نتائج سلبية. منها الاستلام، ورمي اللوم على الآخرين وهدم العقل والفكر والمنطق بقبول الأساطير والأحاديث الساذجة. وعلاج هذا المرض، أي هوس المؤامرة، يكون بمعرفة أسبابه لا بتشخيصه فقط وتشخيص نتائجه. وأعتقد أن من أسباب تقبل المسلمين نظرية المؤامرة هو توفر مناخ القبول بنظرية المؤامرة منذ القرون الأولى، ثم ازدهر الطلب عليه من الفكر الإسلامي عبر القرون.
ففي اعتقادي أن بدايات مناخ المؤامرة قد ابتدأ تهيئته قصداً مع فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه وما لحقه من فتن بين الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وبعد ذلك جاءت فتنة المعتزلة وما لحقها من منع المنطق، فقُتَل الفكر المنطقي والنظر الصحيح لمسببات الأمور وتمييزها عن نتائجها. فخُلق في ثقافة المسلمين وعقولهم مناخا نفسيا متواكلا، يرفع عن نفسه كلفة جهد التفكير في الأخطاء بتحميل اللوم على الآخر.
فتحميل اللوم على عبد الله بن سبأ كان فكراً سطحياً ساذجاً غرضه منع الناس في التفكر في أسباب الفتنة. مما أدى إلى تعطل الاستعبار منها والاستفادة من دروسها، وتوجه الفكر تحليلي وتطبيقي جاد نحوها. فكانت النتيجة أنه لم تتوقف سيوف المسلمين من قتل بعضها بعضا إلى اليوم، ولم يستفد من دروس تلك الفتن المؤلمة، الا التهاون في استحلال دماء المسلمين.
وإلى اليوم، لا يأتي أحد يريد التفكر في قصة ابن سبأ، إلا ويُتهم بشتى أنواع الاتهامات. رغم أن المفروض هو اتهام نية أو عقلية من يروج لهذه الاساطير السبأية. فأي تعظيم لدين هذا، وأي تقدير لصحابة رسول الله رضي الله عنهم، إن كان يهوديا نكرة يستخف كبار الصحابة وأفضل الأمة فيحملهم على قتل بعضهم بعضا، ويقسم أمرهم ويقيم خلافة ويهدم أخرى، ويجيش جيوش الصحابة، ليسفك بعضهم بدماء بعض! فما على المسلمين بعد ذلك من لوم على عقولهم ولا في ذبح بعضهم بعضا.
ولماذا شخصية عبد الله بن سبأ هي التي اختيرت لهذه الأساطير، بغض النظر كونه حقيقة أو خيالا؟ أعتقد أن السبب هو لتسهيل قبول الأسطورة عند المسلمين لقوله تعالى {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى}. وهذه الآية لم أجد من قدماء المفسرين - حسب اطلاعي -حاول التطرق لمعضلة فهمها. فمنذ أن أُخرج اليهود والمشركون من جزيرة العرب إلى نهاية الحروب الصليبية، فالنصارى هم من كانوا في الظاهر الأشد عدواة للمسلمين ولليهود من أي جنس أو دين أو عرق آخر. وأما المسلمون فقد تصالحوا مع اليهود منذ القرن الأول وتعايشوا معهم بعد طردهم من جزيرة العرب وسمحوا لهم بالتقدم في المراكز الاجتماعية العليا كالوزارة والتجارة. وهناك من المفسرين المُحدثين، من حاول حصرها في زمن الرسول، أو أن هذا في حالات النزاع فقط. وحصر الآية في زمن الرسول بدون دليل واضح، يفتح الباب لتخصيص أحكام الشريعة بزمن الرسول عليه السلام. فإما من قاعدة واضحة مطردة وإما تعبث الفقهاء في الأحكام الشرعية، وزادوا فتنة المسلمين فتنا أخرى.
ولم تعد العداوة بين المسلمين واليهود إلا بعد استيلاء اليهود على فلسطين، ولكن النصارى هم من احتل فلسطين ثم خططوا ودبروا تسليمها لليهود، وما كان اليهود إلا أداة لهم استخدموها في حربهم على المسلمين. وكذلك المشركون بالجملة، لم تكن بينهم وبين المسلمين من عداوات تُذكر، إذا ما قورنت حروب المسلمين مع النصارى.
فليس بصحيح بأن الأول لم يترك للآخر شيئا بل ترك شيئا عظيما لم يُلمس، وترك خلطا عظيما وأوهاما أعظم. فهذا هو الجهد الذي ينصرف له عالم الشريعة اليوم الذي يستحق أن يلقب بعالم شرعي.
فإن كان هناك ثَمَ مِن مؤامرة، فالمؤامرة هي دعوى التقليد واتباع من يحفظ اقوال بشر أو قول لمتآلٍ على الله برأي لا سند له صريح من الشريعة ولا من استنباط بقاعدة مطردة مُستنبطة من اطراد نصوص الوحي حسب فهم كبار أصحاب رسول الله لها.