لمَّا أزل معجباً بالعقاد، محباً له، راثياً لحاله، مشفقاً على ما لقيه في حياته من عنت، وتطاول، وافتراء، وعزوبية، وشظف عيش، وعزة نفس لا تُطاق.
ولمَّا أزل ألْقَى من اللوم، والنقد، بسبب تعلقي به ما الله به عليم.
إذ هناك مريدون لا يتصورون مشروعية تعلقي بمنتجه الفكري، وهو صاحب سيرة اعتورتها سهام الاتهام المغرض، وكادت ترديه، لولا عنفه، وصلفه، وإعجابه بنفسه، وثقته بمبلغه من العلم والفلسفة.
والمريدون يودون مني أن أكون تقياً، نقياً، ورعاً، لا شية في شيء من نوازعي، وميولي. بل قل: يودون أن أكون ملاكاً ملائكياً. وفاتهم أن من لم يشرب مراراً على القذى، ينتابه الظمأ:- «وأي الناس تصفو مشاربه».
الفكر المعاصر لم يسلم من دخن الفكر المادي الحديث. ولو اشْتُرِط الصفاء، والنقاء، لما بقي على وجه الأرض من تُلْتَمس معارفه.
عمالقة الأدب، والفكر، والسياسة، في العصر الحديث، لو أخذوا بمقاييس السلفية النقية الدقيقة، لما سلم منهم أحد. والناقد المنصف من يسدد، ويقارب، ويغض الطرف عن الهنات التي لا يسلم منها أحد.
ثم إن الفساد المطلق، والنقاء المطلق مستحيلان. فالعلماء وسائر الكتبة لهم وعليهم. والمصانعة مطلوبة، والأخذ بأحسن القول لا يحول دونه ما يشوب القول من نقص، لا يسلم منه متحدث، أو مفكر. والمنجز الفكري منذ الأزل يظل راداً ومردوداً عليه. وعلى المستبرئ لدينه وعرضه أن يُمِرَّ ما يتلقى على ضوابط الشريعة، ومقاصد الإسلام، فيأخذ ما يفيد، وينفي ما سواه. والمطلوب من سامع القول أن يتبع أحسنه؛ و[العقاد] - رحمه الله - مثله مثل غيره من مجايليه فـ[الرافعي] و[طه حسين] و[أحمد أمين] وسائر العلماء والمفكرين لهم، وعليهم، وإذ لم يكن العقاد من أحسنهم، فإنه لن يكون بالضرورة من أسوئهم.
وإسلامياته المتعددة الحقول، بعمقها، وشموليتها، ومنافحتها، تخاطب العقول، وتجالد، وتجاهد الفكر المادي. ومن ثم فإنه نخبوي، لا يقاربه إلا من أُوتي بسطة في العلم والفكر. ولربما يكون الأهم من بين لدّاته في التصدي، والتحدي، والصمود أمام المستشرقين، وعمالقة الفكر الغربي.
[العقاد] مفكر عنيف. [والرافعي] عاطفي أعنف. والمنصف يتحرى ويتثبت ويتبين، ولا يطلق الأحكام الجائرة، أو يحتفي بها، وكأنها قضايا مسلّمة.
ما يُؤخذ على العقاد في جانبه السَّيْري عزوفه عن الزواج، وتعلقه بامرأة مشبوهة، جسّد خيانتها شعراً، ونثراً. وهناته الفكرية دون من سواه. والرافعي كان محباً لـ[مي زيادة] من طرف واحد، وقد قال فيها أكثر مما قاله العقاد في [سارة]. وألف كتبه [حديث القمر]، و[السحاب الأحمر]، مجسداً تعلقه بـ[مي].
وكل أديب له بعض الشطحات، التي ألمّ بها في حياته، ثم أقلع عنها. ولا يجوز استصحابها، ما لم تكن مؤثرة على فكره، بادية للعيان، كما لا تجوز إشاعة الهفوات التي ألمّ بها عالم، أو مفكر في مرحلة من مراحل حياته، متى كان لهذا العالم، أو المفكر أثره، وتراثه الذي ينافح فيه عن الإسلام.
لقد أوذي [أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري] من بعض المناوئين له، وكثر استدعاء شعره الغزلي بـ[أم الوليد]، وهو عاشق كـ[الرافعي] من طرف واحد. فالرافعي عشق جمال [مي] وأدبها، ولم ينل منها، بل لم تحفل به، ولم تلتفت إليه، وظلت عاطفته إسلامية، ومنافحته عن حوزة الدين من الثوابت، التي لا يُزايد عليها إلا مغرض.
كما ظلت عاطفة [أبي عبد الرحمن] إسلامية، وقد نافح عن الفكر السلفي السليم، وفنّد كثيراً من الأفكار المادية، وفضح التقليد، والتبعية، وعَرَّى أغيلمة الصحافة، ولقي في عمله هذا نصباً. ولا يعيبه عشقه البريء، وتعلقه بصوت، يتأول خطأً حِلَّه على مذهب الظاهري.
على أنه لا يَسْلم أحدٌ من الأساطين من المآخذ السلوكية، أو الفكرية. والمشاهد لا تستغني عن العمالقة مع ما هم عليه. والتخلي عنهم لمجرد أنهم شطحوا في بعض ما يذهبون إليه مضيعة للفكر، وتفريط بالمفكرين.
فهل نلقي بـ[فتح الباري] لأن مؤلفه أشعري؟.
وهل نستغني عن [الكشاف] في التفسير، لأن مؤلفه معتزلي متعصب؟.
وهل نفرط بكتب [أحمد أمين] لأنه آخذ بمذهب الاعتزال؟.
وقل مثل ذلك عن سائر الشعراء، والأدباء، والمفكرين.
[زكي مبارك] مات مخموراً، ومع ذلك خلف لنا ثروة علمية، وأدبية لا تنازع. وحين كتبت عن [شطحات الدكاترة] قبل أربعين سنة، بوصف الدكتور زكي مبارك يحمل ثلاث شهادات دكتوراه، عاتبني المربي القدير [عثمان الصالح] رحمه الله، بكتاب خطي، وذكّرني بكتابه [النثر الفني في القرن الرابع] الذي قدمه بالفرنسية، إلى [جامعة باريس]، ونال به شهادة الدكتوراه.
والشاعر [أحمد شوقي] لا ينازع في عاطفته الدينية، وإسلامياته، وهو القائل:- [رمضان ولَّى هاتها ياساقي].
ومن قبل أولئك، [الأصفهاني] الكذاب المتشيّع، لقد ترك لنا كتاب [الأغاني] الذي قلت عنه بأنه [أكذب الكتب وأعذبها].
وهل أديب يستغني عن الأغاني؟
الغريب في الأمر أن بعض الورعين من أصحاب المواقع المتقنعين، أخذ عليَّ الثناء على كتاب الأغاني، وسخر مني، حين قلت: بأنه لا يكون أديباً من لم يقرأ كتاب الأغاني. حتى لقد قلل من معرفتي الشرعية، وسَفَّه من رأيي، وحذر من رؤيتي. وظل يتناكف مع لفيف من المغردين، لأن كتاب [الدرر السنية] حذر منه. والتحذير من بعض الكتب، لا يعني خلوها من الفائدة، وإسهامها في نهضة الأدب، وحفظ عيونه.
وهل تحول دون الاستفادة من [الجاحظ] اعتزاليته، وشعوبيته؟.
وهل يحول دون الاستفادة من فحول الشعراء ارتزاقهم بالشعر، ومدحهم من لا يستحق المدح؟.
يجب أن تكون أحكامنا منصفة، ومعقولة، ولا تحول دون التفاعل، والحضور، وإثبات الوجود، واستيعاب فكر المخالف، والكشف عن هناته، وانصافه فيما سوى ذلك.
الورعون يحذرون من المواجهة، ويخوّفون من قراءة الآخر. والأصوليون يقولون:- [الحكم على الشيء فرع عن تصوره]. فكيف -يا رعاك الله- تفند حجة الخصم، وأنت لم تقرأه. إن عيب مشاهدنا القراءة عن الآخر، والاكتفاء باجترار آراء الآخرين عنه. وهذا قادح بالعدالة، والمصداقية. إذ لا بد من قراءة الفكر من مصادره، للتوفر على الحقائق، والمصداقية.
فكم من عالم ظُلم، لأن مصدر الأحكام عنه من خصومه. فهذا المصلح «محمد بن عبد الوهاب» رحمه الله، يهرف خصومه بما لايعرفون، ولو أنهم قرؤوا كتبه، لما قالوا في حقه ما قالوا.
وأخطر شيئٍ تتعرض له المذاهب الخلط بين المبادئ، والممارسات، وعدم التمييز بين الوقوعات العارضة، والظواهر المستشرية.