كتب الأستاذ فهد العجلان (نائب رئيس تحرير هذه الصحيفة) مقالاً الخميس الماضي عنوانه (التقنية ومعركة ذات الأوراق)، في مقاله رد على مقولة «أن المطبوعات الورقية في سبيلها للانقراض أمام تقنية المحتوى الإلكتروني «وحجته في ذلك» أن الإبداع والابتكار في وظيفة وشكل المطبوعة الورقية هو ما سيجعلها حاضرة حتماً في السوق إلى جانب التقنيات الحديثة».
أنا أتفقُ مع الأستاذ فهد في أن المطبوعات الورقية سواءً كانت كتباً أو مجلات أو صحفاً ستبقى لأمدٍ حتى تتطور التقنية بصورة تجعل الطباعة الورقية غير مجدية تماماً، ولكن لأسباب تختلف عما ذكر الأستاذ فهد، فجهود الابتكار والإبداع في تطوير وظيفة وشكل ووسائل المحتوى الإلكتروني تفوق كثيراً تلك الجهود التي تُبذل لإنعاش سوق المطبوعات الورقية، ولكن ما يجعل المطبوعات الورقية حاضرة في السوق وما زال لها الحصة الأكبر في المقروء اليومي الشامل، يعود لعدة أسباب ليس بينها فيما أرى الإبداع والابتكار، بل إن جلها يكمن في سببين رئيسين، الأول يتعلق بسلوكيات وعادات القراء والثاني يتعلق بالأنظمة المقيدة لتداول المقروء.
منذ عدة سنوات اشتريت لكلٍ من أولادي جهاز كومبيوتر وطابعة، وكنت أعتقد أن كلاً منهم بحاجة إلى طباعة ما يُقرأ أو يُكتب، ولكن اعتقادي كان في غير محله، فنشف الحبر في كل الطابعات واستغني عنها تماماً بعد ذلك، واليوم لا أحد منهم يريد طباعة إلا ما يستدعيه عمله أو مدرسته، حين ذاك اطلعت على مقال (نسيت كاتبه)، يتحدث عن صعوبة قراءة المحتوى الإلكتروني من شاشة الكومبيوتر لفترة طويلة لمن تعدى عمره الأربعين سنة، وذلك لسبب يتعلق بمرونة عدسة العين، فعدسة العين في حركة انقباض وارتخاء مستمرة لتحديد وضوح القراءة، وهذا يُجهد العين ويبعث على الملل، وفي المعتاد عند قراءة المطبوعة الورقية تتحرك اليدين بصورة موائمة لحركة عدسة العين لا إرادياً لتقلل من جهد العين، ولكن في حال شاشة الكومبيوتر فالشاشة ثابتة ويبقى جهد الحركة محصوراً بالعين، لذا يشعر الكبار بالتعب أكثر من الصغار نتيجة لقلة مرونة عدسة العين لديهم، هذا السبب هو ما يدفع الكثير لطباعة المقروء الإلكتروني وتفضيل الصحف الورقية وكذلك الكتب، وهناك سبب آخر يتعلق بسلوك القارئ في حال قراءة الصحف، فالمطبوعة الورقية تيسر النظرة العامة للجريدة في حال التصفح السريع وهو ما يمارسه معظم قراء الصحف. لذا إذا تم التغلب على المعوقات السلوكية للقراءة فسيحد ذلك كثيراً من الطباعة الورقية، ويُذكر أن هناك بحوثاً باتت متقدمة لصناعة شبيهة للورق تطبع وتمسح ذاتياً مرات متعددة.
العائق الأهم للاستغناء عن المطبوعات الورقية فيما أرى يتمثل في الأنظمة والقوانين التي تحكم تداول وإنتاج المحتوى بصورة عامة، فهناك حقوق الملكية الفكرية والتي تمثل العائق الأهم لتداول المحتوى بحرية تامة، وهي ما جعل كثيراً من دور النشر العالمية تتردد في الاعتماد على العرض الإلكتروني دون الورقي لمنشوراتها، بل إن النشر الإلكتروني في بداية التسعينيات وذلك عندما أصدرت شركة (Adobe) صيغة الوثيقة المنقولة (PDF) أصبح هدفاً لكم هائل من القضايا القانونية، كان نصيب شركة (Adobe) منها كبيراً، ولم تهدأ محاولات وأد تلك الصيغة إلا بعد أن اعتمدت الحكومة الأمريكية صيغة (PDF) لنشر وثائقها وبياناتها على الإنترنت. واليوم أصبح لعدد كبير من دور النشر صيغ خاصة بها تحد من التداول الحر للمنشور الإلكتروني، بل إن هناك أجهزة خصصت لاستعراض المنشور الإلكتروني فقط مثل (Kindle) والذي تعتمده شركة (Amazon) وجهاز (Nook) والذي تعتمده مكتبة Barnes الجزيرة Noble.
وهناك عائق قانوني آخر يتمثل في عملية توثيق المحتوى المقروء فالتوقيع الإلكتروني حتى الآن لم يستطع أن يحل محل الصدقية القانونية للتوقيع الورقي، كما أن معظم الحكومات ما زالت تحتفظ بكم هائل من الورقيات التي توثق حقوق مواطنيها أو علاقاتها معهم وتعتمد عليها في معظم القرارات اليومية، هذه المعوقات القانونية للتداول الحر للمطبوعات الإلكترونية في سبيلها للزوال مع الزمن نتيجة تطوير أدوات ووسائل تستجيب لمقتضيات حماية الملكية والتوثيق.
المحتوى الإلكتروني في التعليم تقدم كثيراً على المحتوى الورقي وبات في استطاعتنا أن نقول إن التعليم خلال السنوات المقبلة سيتحرر من كثيرٍ من المطبوعات الورقية وسيبقى هناك تحدٍ وحيد ومهم يتمثل في تعليم الكتابة اليدوية للطلاب والتي ستحتاج إلى وسيط مناسب ومريح للطالب، وربما يكون ذلك في صيغة لوح كتابة إلكتروني رقيق يحتمل الكتابة والمسح والتخزين، عندها يتحرر التعليم كلياً من الورق، في ختام هذا المقال، أرجو ألا يكون الدفاع عن الطباعة الورقية هو تحقيق لظاهرة (الضفدع)، بحيث يتم نكران التقدم الصناعي في تكوين وتداول المحتوى الإلكتروني، والوقوع في أسر المطبوع الورقي، فللتذكير فقط، في نهاية التسعينيات باعت شركة مايكروسوفت مطابعها المعروفة بـ(Microsoft Press) في أوج نجاحها، بعد أن توصل (بل جيتس) إلى اعتقاد بأن الطباعة الورقية في سبيلها للزوال.