جل المنطقة العربية تمر بمرحلة دقيقة وحرجة هي الأخطر في تاريخها منذ اتفاقية سايكس - بيكو (1916) التي قسمت المشرق العربي أو ما كان يعرف بمنطقة الهلال الخصيب (العراق والشام) إثر تداعي سيطرة الإمبراطورية العثمانية، وجرى تقسيمها إلى مناطق سيطرة واحتلال ونفوذ بين بريطانيا وفرنسا، وفي منطقة الشام وبشكل مصطنع تشكلت كل من سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ( تمهيدا لتحقيق وعد بلفور لليهود في فلسطين الصادر في 1917).
تلك الاتفاقية الاستعمارية جاءت استكمالا للسيطرة البريطانية على مصر والسودان وعدن ومنطقة الخليج (باستثناء السعودية واليمن) من جهة، والسيطرة الفرنسية على بلدان منطقة المغرب العربي (الجزائر وتونس والمغرب) من جهة أخرى، في حين وقعت ليبيا تحت الاحتلال الإيطالي.
وعلى مدى عقود من الكفاح الوطني الممهور بالدم والتضحيات الجسام ضد السيطرة والهيمنة الإمبريالية الأوربية تمكنت الدول العربية (ما عدا فلسطين التي وقعت تحت الاحتلال الصهيوني) من نيل حريتها واستقلالها.
ومع أنه حدثت بعض التغيرات المهمة في بنية المجتمع العربي في العقود الأولى على تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي وبناء الدولة «الحديثة»، وتنفيذ الخطط والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، غير أن تلك المكاسب سرعان ما تبخرت وتراجعت. على مدى العقود الماضية التي عانينا خلالها تجذر الأزمة البنيوية والمركبة والشاملة والتي تعود للسياسات والمشروعات الفاشلة التي اعتمدتها الدولة (الوطنية) العربية على اختلاف مرجعيتها السياسية والأيديولوجية (ليبرالية، قومية، اشتراكية وإسلامية)، وبالتالي سرعان ما وصل مشروع الانبعاث الوطني والقومي الذي رفعته الدولة العربية إلى طريق مسدود، والذي يعود إلى تعثر وفشل التنمية الاقتصادية المستقلة، وتراجع فكرة العدالة الاجتماعية، وإحباط متطلبات الانفتاح والتعددية والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وغياب الإصلاح الجذري على صعيد الفكر الديني والتعليم والإعلام، وبروز وتبلور قوى اجتماعية بيروقراطية وطفيلية استفادت من مواقعها ونفوذها ضمن أجهزة السلطة ومؤسساتها من أجل تنمية امتيازاتها ومصالحها الفئوية الخاصة، ولم تتردد في ممارسة الطرق والأساليب غير المشروعة في سبيل إحكام هيمنتها وقبضتها واحتكارها لمكامن القوة والثروة، وممارسة شتى أشكال الفساد والتعديات التعسفية.
وتحت مزاعم الخصوصية القومية أو الدينية، وذريعة مواجهة خطر الإرهاب، تعمق الطابع الاستبدادي/ الأمني للدولة التسلطية العربية القامعة لحقوق الأفراد والجماعات، إلى جانب التدهور العام والشامل في الوضع الاقتصادي، حيث اتسعت حدة الفوارق الاجتماعية / الطبقية وتدهورت الأوضاع المعاشة وازدادت معدلات البطالة والفقر لدى الأغلبية الساحقة من الشعوب العربية ،وارتهان الوطن بأكمله لقيود التبعية والإلحاق والتخلف بشتى صوره وأشكاله، وهو ما تؤكده التقارير الدولية والعربية ما خلق حالة انكفاء على المصالح القطرية الضيقة على حساب التضامن والعمل العربي المشترك من جهة، وبروز واستفحال مختلف أشكال الانتماءات الفرعية من إثنية ودينية وطائفية وقبلية في محاولة يائسة وبائسة للبحث عن طريق الخلاص ضمن الأطر التقليدية (ما قبل الدولة) من جهة أخرى. وقد أدى الفشل الذريع لمجمل السياسيات والمشاريع التي اعتمدتها الدولة القطرية العربية على اختلاف أنماطها السياسية، إلى اضمحلال وتآكل شرعيتها التاريخية أو المكتسبة، وفي المقابل أخذت تطفح على السطح وتسود مختلف أشكال الانتماءات والعصبيات والولاءات الفرعية وتصدرها المشهد العام في البلدان والمجتمعات العربية كافة.
اللافت أن غالبية الدول العربية التي شهدت ثورات وانتفاضات شعبية باتت توصم بحق أنها دول فاشلة، حيث تفكك أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، والانفلات الأمني، وانتشار السلاح والمجموعات والمليشيات المسلحة (المذهبية والقبلية والمناطقية) المتصارعة، في ظل تفاقم الأزمات السياسية الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وعلى النحو الذي شاهدنا في الماضي القريب ونشهد تجلياته الراهنة، حيث بتنا أمام فصل سايكس - بيكو جديد، حيث تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، ولكن بأدوات محلية، وإشراف وتواطؤ خارجي، وكما حصل ويحصل في السودان والصومال ولبنان والجزائر وسوريا والعراق وليبيا، وانعكاساته الدامية والمدمرة لمقومات الكيان الوطني والدولة والمجتمع بل وتهديده للاستقرار والسلم الإقليمي والعالمي. لمواجهة داعش وشركائها يتعين وضع الفأس عند الجذر، من خلال وضع إستراتيجية مواجهة وطنية وقومية وأممية شاملة، تغطي كافة الجوانب الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية والتعليمية والإعلامية.