فرحنا بما نحن فيه من تقدم في التكنولوجيا ورحبنا بها، فملكنا الهواتف الذكية والحواسب اللوحية صغيرنا قبل كبيرنا، ولم نلحظ أو ندرك أننا أصبحنا عبيدها، فككت الأسر، وأضعفت التواصل بين الآباء والأبناء، وألهت الأسر عن واجباتهم الأساسية وأضعفت الروابط الاجتماعية، ومشاعر المحبة ودفء اللقاء، وأبعدت الأرواح،حنطت الأجساد، جمدت العقول، وأضعفت البصر، وأصابت الأيدي بأمراض، قطعت الأواصر الأخوية!
إن وسائل التواصل الاجتماعي جعلت أفراد أسرته في معزل عن بعضهم، فهناك من الأبناء من يحتفظ بالكثير من المواضيع التي يرغب في الحديث فيها مع أهله، لكن انشغالهم يجعله يبحث عمن يتقاسم معه همومه خارج الأسرة، فإذا تعرض ابن لموقف معين يمكن أن يجد من يواسيه على الواتس آب مثلاً أو على الفيس بوك وغيرها من الوسائل الأخرى، لكن على أرض الواقع غير الافتراضي تقل هذه العواطف، ولن تجد من يتجه نحوك أو يطرق بابك ويواسيك فعلياً، لقد أصبحنا في عزلة كاملة، ونعاني غربة داخلية، كما أننا أصبحنا نعيش جفاف المشاعر والأحاسيس، حيث أصبحت مجالس الأسرة صورية، بحيث الأجساد حاضرة والأرواح غائبة نتيجة انشغال الجميع بهواتفه الذكية واستقبال وإرسال الرسائل.
إن أفراد الأسرة أصبحوا متفرقين بسبب هذه الوسائل، بحيث أصبحت البنت ترسل لأمها رسالة لتطلب منها شيئاً، والكل يلهو في زاوية من زوايا البيت، كانت الشكوى تتعلق في البداية بتعلق الأبناء بهذه الوسائل، واليوم تغيرت الحال، بحيث أصبح الأبناء يشتكون هذه المشكلة!
أصبح كل شخص غريباً عن الآخر في البيت نفسه، وانشغلت الأم عن أبنائها، وكذا الأب عن زوجته، وكل في اتجاه، كما افتقدنا الجانب القيمي في علاقاتنا مع بعضنا، ففي السابق كانت الأم ناقلة للقيم والجدة كذلك، أما اليوم ومع الانشغال بوسائل التواصل الاجتماعي أصبح هناك فراغ عاطفي وقيمي!
إن ارتباط الأبناء بوسائل التواصل الاجتماعي أصبح متجاوزاً، بعد انتقال هذه العدوى للآباء، إن ذلك يؤثر سلباً على الأطفال وعلى تربيتهم، ويضعف قدراتهم على التواصل، بحيث يركن كل طرف إلى نفسه، ويترك أسئلة الأطفال بلا أجوبة، ومن المتعارف عليه أن المراهقين يصبحون أكثر إلحاحاً وتكثر استفساراتهم ويطلبون مرافقة الأهل، وهنا قد تظهر مشاكل عويصة إذا شل جانب الحوار والمواجهة المباشرة نظراً للانشغال بوسائل التواصل الاجتماعي الذي يجعل أطراف العلاقة في عزلة، كما أن لغة الجسد تلعب دوراً كبيراً في العلاقات الإنسانية، وهذا الجانب أصبح مفقوداً من خلال استعمال هذه الوسائل في علاقاتنا، مثلاً عندما أخاصم ابني نتيجة تصرف معين، ويرغب في الاعتذار مني، قد يعانقني أو أضمه لصدري، أما وسائل التواصل الاجتماعي، فإنها تفتقد هذه الروابط الإنسانية العاطفية، إلى جانب التأثر بنبرة الصوت ونظرة العين وتعابير الوجه، وغيرها من الإيحاءات التي تعبر عن الرضا أو عن تقبل بعض السلوكيات.
أنا لست ضد استخدام وسائل التواصل أو تكنولوجيا الاتصال، فالوالدان اللذان يشعران بحجم المشكلة ويوجد لديهما أبناء يطالبونهما بالشاشات وهما يرغبان أن يربيا أبناءهما بالشكل الصحيح، عليهما أن يتبعا في ذلك أقل الضرر، بتوفير ما يمكن أن يكون ضرره أقل من سواه، أما المنع التام فهو مرفوض، لا بد أن تتوفر المناعة لدى الأبناء، وذلك يتحقق بعدة أمور أولها اختيار الأشياء المتعلقة بالتقنية، كانتقاء البرامج والألعاب الملائمة لمرحلتهم العمرية، كما لابد من تحديد جدول زمني للانكباب على التقنية بأنواعها سواء انترنت عبر المحمول أو الهاتف الخلوي، فالتربية في حقيقتها سلوك، مع توجيه أفراد الأسرة إلى انتقاء المعلومة الجيدة النافعة عبر التوجيه والتكليف، لابد أن يكون هناك أسلوب متفق عليه لدى الأبوين لإدارة الأسرة بخطوط واضحة، أما حينما يكون الوالدان هما أنفسهما شغوفين بالتقنية، فنتاج الأبناء حصاد زرع الوالدين، فليس من سنن الطبيعة أن نزرع الصبار وننتظر الفراولة تنبت!
فلا مانع أن تقف الأم وتقوم بإغلاق جهازها ثم توجه كلمتها لأبنائها بقولها: «لو سمحتوا الجميع يغلق البلاك بيري أو الأيفون، لا نريد أجهزة معنا، وشعارنا إما نحن أو الأجهزة في جلستنا»!!