قال الخبراء: ستقفز الأسهم الشهر المقبل، فحدث العكس.. قالوا: سينضب النفط قريباً فزادت الكميات المكتشفة.. قالوا أيضاً: ستتجزأ الدول العربية لدويلات.. وقالوا: ستهطل أمطار بهذا الموسم هي الأكثر منذ أربعين عاما.. لم نرَ شيئا من ذلك! ..
..كل يوم يطالعنا «الخبراء» بتوقعات كبرى بشتى الموضوعات، كثير منهم يقومون بتوقعات عديدة ومختلفة، وحين يقع أحدها يُهلل له باعتباره توقعا فذَّاً من خبير حكيم! بالمقابل لا تقع أغلب التوقعات ويطويها النسيان فلا يُحاسب صاحب التوقع الصميدع حتى لو توقع نهاية العالم!
يذكر كتاب Think Like a Freak أنه عام 2011 أعلن الكاهن هارولد كامبنج تنبؤه بنهاية العالم يوم السبت 21 مايو بتلك السنة، وسيموت كل البشر إلا المؤمنون الأتقياء. أحد الآباء يقول إن ابنه الصغير رأى عنوان الخبر فأصابه الهلع ولم يُجدِ إقناعه بأن ذلك سُخف.. في ليلة الحادي والعشرين من مايو كان الطفل يبكي حتى نام.. وجاء الصباح مضيئاً صافياً. يقول الأب سألت ابني: ما رأيك بما ينبغي أن يحصل لكامبنج؟ قال الطفل: بسيطة، ينبغي أخذه لساحة عامة وإعدامه.
تلك عقوبة قاسية، لكن لماذا لا يُحاسب أصحاب التوقعات الكبرى؟ حسناً، في رومانيا قرر المشرعون مؤخراً أن الساحرات (قارئات البخت) ينبغي أن يدفعن غرامة أو السجن إذا لم يصح توقعهن. الساحرات جن جنونهن، وهددت أشهرهن بأنها ستعمل للمشرعين عمل من براز قط وجثة كلب! أما الاقتصادي رولف دوبلي فيقترح أن يدفع صاحب التوقع ألف دولار مقدماً لصندوق خيري، فإن نجح توقعه أعيد له ماله، وإن فشل فيذهب المال للصندوق.
لماذا تستمر التوقعات يومياً من الخبراء أو المشعوذين؟ الإجابة سهلة، بداية نحن بحاجة نفسية عند حدوث مفاجآت، لمن يحلل لنا ويتوقع وربما يطمئنونا (ضحك على الذقون) أو يرعبنا (جذب الانتباه). لكن الأهم أن هناك مقابلاً مغرياً ينتظر صاحب التوقع إذا نجح، دون أي عقوبة لو فشل توقعه. ألم يعترف المبرمج المشهور آلن كوكس: «قمت بالكثير من التوقعات، الناس ينسون الخاطئ منها ويعجبون بالباقي». فأنت إن توقعت ارتفاع الأسهم بشكل مضاعف خلال سنة، فسيُحتفل بك لسنوات لو صح توقعك، أما إذا هبط السوق فلا أحد سيذكر.. لا أحد لديه الاستعداد لمتابعة فشل التوقعات!
هذا صحيح، حتى ظهرت دراسة ضخمة عام 2005 أجرها فريق بحثي يرأسه بروفيسور علم النفس السياسي فيليب تيتلوك، صدرت بكتاب، راجع فيها 28 ألف توقع سياسي واقتصادي على مدى عشر سنوات، توقعها 284 خبيرا حكوميا وأكاديميا وإعلاميا. أظهرت النتائج أن أسوأ التوقعات كانت من الخبراء الذين يظهرون في الإعلام، وأن معدل توقعات الجميع كانت أكثر دقة قليلاً من الحظ، وأسوأ من نظام إحصائيات الكمبيوتر الذي يقوم باستقراء خام. تقول الدراسة إن كثيراً من التوقعات لم يقترب من الحدوث مثل انهيار: كندا، نيجيريا، الصين، إندونيسيا، جنوب إفريقيا. العكس تماماً الصين تقدمت إلى الأمام بينما انهار الاتحاد السوفييتي دون أي توقع من خبير!
الدراسة نالت اهتماماً واسعاً وصارت جزءاً من مشروع ينتهي بعام 2015. مؤلف الكتاب حصل على جوائز عالمية لهذا الفتح المهم بدراسة التوقعات، لأنها ستغير كثيراً من فهمنا لتوقعات الخبراء وكيف نقيِّمها.. كما أنها فتحت حقلاً جديداً في علم النفس السياسي سيفيد كثيراً في سد ثغرات طريقة التوقعات.
ورغم أن الدراسة تضايق كثيراً من خبراء التوقعات إلا أنها تفيدهم، فقد بينت أن الخبراء يعتقدون أنهم يعلمون أكثر مما هم يعلمون فعلاً، وأن لديهم معلومات يتعاملون معها كحقائق، بينما هي افتراضات. كما أنهم يضعون عبارات غامضة لتوقعاتهم، مثل: إذا حدث كذا فمن الممكن حصول كذا. فكلمة «ممكن» مطاطة، فضلا عن «إذا» الشرطية. فإن حصل التوقع احتفل صاحبه وإن لم يحدث قال أنا قلت لكم «إذا» و»ممكن» فيبرر خطأه!
هذه الدراسة الضخمة كان مبررها الأكبر هو أن سوء توقعات خبراء السياسة بالقطاع الحكومي الأمريكي أدت إلى كوارث مأساوية، على رأسها توقعهم الخاطئ بوجود أسلحة دمار شامل بالعراق، مما سبب الاجتياح الأمريكي له، وفشلوا في توقع ما سيحدث حيث أكدوا أنها مهمة حربية سريعة ونظيفة لكنها كانت طويلة وقذرة..
سوق الأسهم له الحظ الأوفر في سوء التوقعات، يقول بروفيسور الاقتصاد بجامعة هارفرد جالبريث: هناك نوعان من أصحاب التوقعات: أولئك الذين لا يعرفون، وأولئك الذين لا يعرفون أنهم لا يعرفون؛ مما أثار عليه حنق الخبراء. وفي السياق ذاته ظهرت دراسة اقتصادية قامت بها مجموعة CXO غطت ستة آلاف توقع لسوق الأسهم من خبراء اقتصاديين لعدة سنوات. وكانت النتيجة أن معدل دقتها كانت 47% فقط، أي أقل من احتمال قرعة العملة المعدنية: 50%. تلك فضيحة لا يحب الإعلام نشرها، لأنها تخرِّب الإثارة الإعلامية. يقول المدير المالي بيتر لينش: منذ عشر سنوات، كان هناك 60 ألف اقتصادي بأمريكا وظيفتهم توقع معدلات الكساد والأرباح، فلو كانوا ناجحين لأصبحوا الآن مليونيرات.
إذن، كيف نتعامل مع توقعات الخبراء؟ لا يبدو أن ثمة إجابة شافية، لكن على الأقل سأطرح مما استخلصته من آراء خبراء التنفيذ وليس التوقع. بداية اسأل نفسك: ما هو موقع خبير التوقع: نجم إعلامي، أكاديمي، حكومي؟ الأول معتاد على الإثارة، الثاني صاحب نظريات علمية، الثالث حذِر.. الدراسات تقول إن الثاني هو أقل المخطئين بينما الأول أبعدهم عن الصواب. بعد ذلك راجع قدر ما تستطيع (جوجل أمامك) التوقعات السابقة للخبير، هل هي متسقة أم متفاوتة أم متناقضة؟ بالأخير، والأهم راجع ما مدى نجاح توقعاته السابقة، ستُفاجأ أن بعض الخبراء سيحصل على درجة صفر!بعض التوقعات ليست صعبة حين نعرف العوامل المؤثرة، مثلاً يمكنك توقع وزنك خلال الأشهر القادمة وفقاً لكمية طعامك ونشاطك الرياضي..
وبعضها صعب يعتمد على ما يحدث بالحاضر وليس فقط الماضي كالأمور السياسية.. وبعضها معقد شبه مستحيل كسوق الأسهم، فلو أن خبراء توقعات الاقتصاد ناجحون لكانوا هم أنفسهم أكبر الأغنياء! ولو أن خبراء توقعات الاختراعات التكنولوجية ناجحون لكان عليهم أن يخترعوها.. أغلب التوقعات هي مجرد ملهاة نفسية وأرزاق للمتوقعين ندفع نحن ثمنها!.