حلّت ذكرى يومنا الوطني هذا العام قبل حلول عيد الأضحى المبارك بأحد عشر يوماً فقط، واحتفينا بكليهما، ومع ذلك فما أكبر الفرق في الشكل والمضمون بين هذا وذاك.
العيد - سواء عيد الأضحى أو عيد الفطر
- يعود كل عام ليس لارتباطه بتذكر حادثة تاريخية، بل لارتباطه بأداء عبادة تتكرر كل عام (صوم رمضان والحج والنحر تقرباً لله عز وجل) وفي كل واحد من هذين العيدين عبادة أيضا، حيث تقام صلاة العيد وتدفع الصدقة : زكاة الفطر وثلث الأضحية.
أما اليوم الوطني فهو ليس عيداً، بل مناسبة دنيوية يُحتفل فيها بذكرى يوم تاريخي لا يتكرر هو نفسه، بل تتكرر ذكراه، حتى لا ينسى المواطن عظمة هذا اليوم في تاريخه الوطني . وما مظاهر الاحتفال إلا وسائل تعبير تعكس البهجة كما يعكسها الاحتفال بإحراز بطولة رياضية مثلاً. ولم يخصّص لهذه الذكرى إلا إجازة يوم واحد.
في 21 جمادى الأولى من عام 1351هـ أعلن جلالة الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - تأسيس المملكة العربية السعودية، دولة موحدة مستقلة، دستورها القرآن والسنة. ومنذ ذلك الحين بدأ بناء الدولة وتنظيمها على أسس حديثة، مقارنة بما كانت عليه قبل التأسيس، وسارت البلاد على طريق التطور الاجتماعي والاقتصادي بأسلوب متدرج، تبعاً لما يتراكم من خبرات ومعارف وما هو متاح من الموارد، وأرسلت البعثات إلى الخارج للتخصص في العلوم العصرية ونقل معارفها إلى الوطن. ولو أرجعنا البصر إلى بداية التأسيس عبر أربعة وثمانين عاماً، لنرى ما تحقق حتى الآن، فسوف نعجز عن وصف ما نراه لأنه يفوق الوصف. فقد انتقلنا من عتمة الأمّيّة إلى نور العلم، ومن حال الجوع إلى حال الشبع، ومن حال التريّف إلى حال التمدن، ومن فتك الأوبئة إلى طول العمر، ومن حال الخوف إلى استقرار الأمن. إن السهولة التي جرى بها هذا الانتقال من حال إلى حال هي من توفيق الله وثروة النفط ورعاية الدولة. ونحن إذ نحتفل بذكرى اليوم الوطني العزيز على قلوبنا في كل عام، لا ينبغي أن نكتفي بمجرد احتفالية تتكرر، نُنشد فيها أهازيج الفخر والاعتزاز، ونُشيد فيها بالإنجازات - وهي بالفعل مفخرة حقيقية. وفي تقرير التنمية البشرية الصادر هذا العام عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي شهادة بذلك، حيث ارتفع تصنيف المملكة بين الدول من المرتبة (57) إلى المرتبة (34) في مجالات صحة الفرد واكتساب المعرفة ومستوى المعيشة. ولعله لا يلهينا الزهوّ بأنفسنا والرضا عما بلغته بلادنا عن تقييم ما تحقق من تطور في كل عام قياساً بالأعوام التي سبقته في جميع المجالات التنموية - بعقولنا قبل عواطفنا - لنعرف ما الذي زاد وما الذي نقص، فإن كل تطور بين عام وآخر هو مؤشر على استمرار هذه البلاد في التقدم إلى الأفضل، وعلى قدرتها على الوصول إلى ما هي جديرة به من مكانة ورفعة. وكل قصور - ولو كان قليلاً - هو محفِّزٌ لليقظة ومراجعة النفس وتدارك أسباب القصور. وذلك كيلا ترتخي قوانا في العمل والإنتاج من جرّاء ثقتنا بأن كل شيء متوافر، وأنه لا يلزمنا سوى أن نوجد من يخدمنا في توفيره. ونحن حين نحيي ذكرى تأسيس المملكة، إنما نؤكد اعتزازنا بالانتماء لهذا الوطن، ونتطلع إلى أن نرى ما يقوّى هذا الاعتزاز ويبرزه، ويرسّخ مفهوم الوطنية، وذلك بأن تكون بلادنا - بجميع مناطقها - أفضل في هذا العام عمّا كانت عليه قبل خمسة أعوام مثلاً -في مجالات التعليم والبحوث والصحة والصناعة والمرافق العامة وحقوق المرأة وتربية الطفل والتوظيف والسكن ومستوى المعيشة والالتزام بالأنظمة ... الخ.
بعبارة أخرى أن نرى - مثلاً - مقدار ما تحقق من الأهداف الإستراتيجية للخطة الخمسية التاسعة، ونترقب ما يتحقق من الأهداف الإستراتيجية (كالتي أعلنت قبل أسابيع) للخطة الخمسية العاشرة المقبلة، وأن نقيس ذلك بمؤشرات ومعدلات تبين مقدار التقدم الفعلي المُحْرَز في المجال الخاص به. وعلى سبيل المثال عندما نعلن انخفاض نسبة المدارس المستأجرة وزيادة عدد المباني المدرسية الجديدة التي شيّدتها الحكومة، فهذا تقدم نزهو به، لكنه لا يكفي للدلالة على تقدم في مستوى التعليم نفسه. وكذلك الحال بالنسبة للمستشفيات الجديدة، فلو زاد عددها فإن هذا بحد ذاته إنجاز لا يستهان به لكن الأهمّ هو تحسن مؤشرات الخدمة للسكان. وفي سوق العمل فإن مؤشر البطالة لا ينخفض، إذا كان معدل التوظيف السنوي أقل من معدل الزيادة السنوية في عدد الداخلين الجدد إلى سوق العمل. وفي هذا السياق لا يستطيع المرء أن يتغاضى عن أهمية زيادة المنشآت الصناعية والإنتاج الصناعي وأثرها في نموّ الاقتصاد، ولكن تأثيرها على مستوى البطالة يكون محدوداً، إذا كانت العمالة المشغّلة لهذه المنشآت أكثرها أجنبية، ولهذا الجانب علاقة قوية بمدى التقدم المحرز في ثقافة العمل بين أفراد المجتمع. يتوافر لدينا في الوقت الحاضر الكثير من الأجهزة والأدوات والآليات التي نستطيع بها قياس مؤشرات التقدم والتنمية، وعلى رأسها مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات ومراكز القياس والرصد في الأجهزة الحكومية والمسوح الميدانية والتحليل العلمي.
لا جدال في أن ذكرى اليوم الوطني مناسبة عظيمة جديرة بالاعتزاز والاحتفال ؛ لذلك من الخير لنا أن تكون أيضاً فرصة لمتابعة وقياس خطوات التقدم والنموّ التي تحققت، لأن ذلك يمكّننا آن نأخذ نحن بناصية التقدم، ويكون دافعاً للسعي إلى تحقيق المزيد. والذي يطمح لبلوغ الدرجات العُلَى لا يكلّ ولا يتعب، مَثله كمثل الرياضيّ الذي يحقق رقماً قياسياً في رياضته في مهرجان مسابقات، ثُمّ يطمح لأن يحطّم هذا الرقم القياسي في المهرجان الذي يليه ببذل مزيد من الجهد وتنمية القدرات.