في معترك الحياة سنواجه أمواجها وسنقابل عاتي ريحها سنلطم برفق مرة ومرات بقسوة, وبما أن الحياة شوطا واحدا وحياة واحدة يظهر فيها خط النهاية فجأة فلا حياة بعد هذا؛ إذن فمن الفطنة حسن فهمها ومواجهتها بما يناسبها من عدة وعتاد, ومن تعلم من مدرسة الحياة فاز، فدونك حقيقتها فهي عامرة بالمواقف حافلة بالمشاهد, ذاك يولد وهذا يموت وملك يسجن ووضيع يحكم، وأسر تمسي ضاحكة وربما أصبحت باكية، ليالي حبلى بالأحداث, لا ثمة مواعيد محددة لمخاضها فمواليدها يحضرون فجأة! فقد تجد نفسك بين انتباهة عين والتفاتتها في حال لم تحسب حسابه! حرب دون إنذار ومرض دون تحذير، وفرح وبكاء دون مقدمات وفقر وغنى دون إرهاص، أيام تروح وليالي تجيء وآجال تمسي ولكن كيف لنا ونحن البشر الضعفاء المساكين أن نحتمل الخطوب ونتجرع الغصص كيف لنا أن نحسن استقبال سود الأيام وموحش الليالي وكيف لقلوبنا النابضة أن تصبر لضربات الدهر وقاصمات الظهر
دار كلما أضحكت في يومها
أبكت غدا قبحا لها من دار
يقول زكي مبارك: أحب أن أنسى ولكن.. أين بائع النسيان؟
فمن يضمد الجرح ومن يسري الهم ومن يكفكف الدمع!
من أعظم مثبتات القلوب ومسكنات الأرواح التسليم بقضاء الله وقدره فالأقدار سهام إذا أطلقت بأمر الله لم ترد!
فالحمد لله والاسترجاع بلسم وشفاء ونور وضياء فلولا تثبيت من الله لطاشت العقول وطاحت النفوس وطارت القلوب!
فغير المسلم يصيح بأعلى صوته عندما تحل مصيبة عليه: لماذا أنا؟ أما أنت يا موحد فتقرأ (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) وما أعظم جوائز الإيمان بالقضاء والقدر فهو يحرر البشر من هم الرزق وخوف الموت والقلق على الأولاد، فالأمر بيد الله أولا وأخيرا فأمره قائم وحكمه نافذ وله الأمر من قبل ومن بعد؛ وعليه فعلينا التسليم المطلق ولا يليق بعال التحسر والتوجع والنواح!
يقول الغزالي: احتفظ بقوتك وتدبيرك وعقلك لما يقع في دائرة سيطرتك فإن البكاء على اللبن المسكوب حماقة ومناطحة الدهر ديدن من لا عقل له! وفرق بين من يحتسب الأجر عند الله وبين من يقضي وقته بالبكاء فللأول الأجر والثواب وحسن الجزاء؛ فلا تحزن لما فاتك ولا تتوجع لما أصابك، فقط أخصمها من رصيدك الوافر من الصحة والأمن واليقين!
كن رابط الجأش هادئ الجنان ثابت القلب فالقلق يدمر والهم يحطم فقد واجهت مريم تهمة موجعة وموقفا صعباً، ومع ذلك قال اللّه لها: (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا).
عش حياتك فهناك أمور تكفل بها خالقك فلا تؤجل لحظة فرح ولا تستقل ساعة أنس واعتن باللحظات؛ فهذا الكاتب (دوستفيسكي) حكم عليه بالإعدام وهو لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره وقبل تنفيذ الحكم وفي آخر لحظة صدر حكم بالعفو عنه! فقال بعدها كلاما يكتب بماء الذهب: (حينما أتأمل في الماضي وإلى هاتيك السنين التي ضاعت عبثا ينزف قلبي ألما..من اليوم سأجعل كل ثانية منها حياة أبدية من السعادة...فقط لو أدرك الأحياء هذا ستتغير حياتهم)!
لا تقم مأتما في قلبك ولا عزاء دائما؛ فمن يكره شيئا يطرده من قلبه ولا يحسن وفادته؛ فلا تدمن الحزن باجترار الأحداث الأليمة وتغذية مشاعرك السلبية بالحديث الدائم والتفكير المستمر؛ لذا حطم مسكن الحزن الدائم في قلبك واشغل نفسك بما ينفعك في آتي أيامك!
وما أروع مواساة المنفلوطي للمحزون عندما قال (أنت حزين لأن نجما زاهرا من الأمل كان يتراءى لك في سماء حياتك فيملأ عينيك نورا.. وقلبك سرورا، وما هي إلا كرّة الطرف أن افتقدته... فما وجدته. ولو أنك أجملت في أملك لما غلوت في حزنك... ولو أنت أنعمت نظرك فيما تراءى لك لرأيت برقا خاطفا.... ما تظنه نجما زاهرا، وهنالك لا يبهرك طلوعه، فلا يفجعك أفوله).
الترياق الشافي والبلسم المداوي بعد الإيمان بالله أن تبتسم روحك ومحياك فهو بلسم للهم ومرهم للوجع وقوة للروح فهو يطهر النفس كما يقول الفيلسوف لين توتانج ويُمّلك المزاج الهادئ والنظرة الجميلة للحياة!
قال:
البشاشة ليس تسعد كائنا
يأتي إلى الدنيا ويذهب مرغما
قلت ابتسم مادام بينك والردى
شبر, فإنك بعد لن تتبسما
نعم ابتسم فلا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا!
يقول الزيات: (والقلب يُقطع من القلب والرُّوح تُنزع من الروح، ثم يعيش المُحِبُ بعد حبيبه، والوالد بعد ولده، كما يعيش النهر الناضب في ارتقاب الفيَضان، والروض الذابل في انتظار الربيع).
فمهما ألم الخطب واشتد الكرب وكثرة زوار الليل من الهم وضاقت الأحوال فتفاءل وأحسن الظن بخالقك؛ فالمتفائل ذكي العقل وافر الحظ عظيم الربح واسع الفرح يتمتع برؤية النجوم ولا ينشغل بعتمة الليل, يطرب لصوت العنادل ولا ينتبه لأزيز المدافع, يستنشق العبير ولا يأبه لوخز الشوك.
ومضة قلم:
الكثير ممن حولك لا يملكون جاها ولا مالا ولا صحة.. لا يملكون سوى الأمل؛ أرجوك لا تقتله فيهم!