منذ صغرنا تعلّمنا أن التاريخ لا يكتبه إلا الأقوياء، سواء أكان هذا التاريخ صادقاً أم مزيفاً، فالسلطة والتأثير والإملاء على التاريخ هي للقوي القادر على إخضاع الناس والسيطرة عليهم، بصرف النظر عن ظلمه أو عدله، ولهذا كانت إسرائيل بكل زعاماتها صاحبة تاريخ في انتصاراتها على العرب، كما كانت قوية بدعم غير محدود من حلفائها الدول الأقوى على مستوى العالم، وقوية بسبب الخلافات العربية، وعدم اتفاق العرب على موقف واحد وكلمة واحدة، هذا مَثَلٌ لا أكثر عن صورة لصفحات من التاريخ كتبه الظلمة من الأقوياء، دون أن يجد الضعيف مكاناً أو صوتاً له في هذا التاريخ.
***
وهناك المثل الأكثر إشراقاً وبهاءً وجمالاً للجانب الآخر من الصورة، كتبه التاريخ الموثق للقوي العادل، دون أن يجد أو يطلب هذا القوي إسناداً ممن هو أقوى منه إلا من الله العلي القدير، أعني بذلك الملك عبد العزيز آل سعود، الذي وحَّد دولاً في دولة واحدة هي المملكة العربية السعودية، بقيادته لنفر جد قليل من المواطنين لتحقيق هدفه وانتصاره وبناء مملكة متحضرة، ولأنه كان عادلاً وحكيماً وشجاعاً، ولا يخاف إلا من الله العلي القدير، ولا يحسب حساباً إلا لرضا ربه وشعبه، وتوحيد بلاده، فقد كتب التاريخ صفحات ناصعة عن المجد الذي صنعه هذا الفارس البطل.
***
هاتان صورتان من صفحات التاريخ تحكيان عن شيء من الواقع وليس كل الواقع، تتحدثان عن أحداث مرت، وإنجازات تحققت، وتقول ما يلامس هوى بعض الناس ونفور البعض الآخر من هذه الصفحات، فالكل ينظر إلى التاريخ وفقاً لمصلحته، وبالقدر الذي يلبي توجهاته، فالتاريخ إذاً فيه ما هو مضيء، وفيه ما هو معتم، وحسبنا أن نقرأه بتمعن واستيعاب وفهم، لئلا يخوننا استدراك الومضات المشرقة فيما بين السطور، أو يغيب عنا ما كان ذا توجه أسود يقوم على التدليس والافتئات على الحقائق.
***
علاقة الأقوياء بالتاريخ علاقة متجزرة ويحدد إطارها حجم التحديات وما يليها من منجزات، بعضها يتجمّل بالعدل والإخلاص والحب والاستحقاق الحقيقي للزعامة كالملك عبدالعزيز، وبعضها الآخر يقوم على العدوان والقهر والظلم، والتاريخ في كثير من صفحاته -وليس في كل صفحاته- يكتب ويسجل حقيقة ما يراه بأمانة وصدق، فيما سنجد في صفحات أخرى منه صوراً من التدليس والكذب والمبالغات وصناعة شخصية البطل لمن لا يستحقها، حتى ولو كان هذا عمّن اعتبروا من الأقوياء الظلمة الذين باستنادهم واعتمادهم على دعم الآخرين، تمكنوا من أن يكونوا بمثل هذه القوة.
***
في التاريخ -حسنة وسيئة- تختفي من بعض صفحاته وبين سطوره ما يثير الدهشة، بسبب غياب المصداقية في بعض ما يكتب فيه، فهناك أحداث وتطورات ورموز لزعامات تكاد لا تجد إنصافاً لدورها، فيما يتم التركيز على زعامات أخرى تتفق مع هوى المؤرخ وانتماءاته وتوجهاته، فيأتي ما يكتب مشوهاً ومغايراً للواقع بفعل هذا الانحياز الأعمى وتدخل العاطفة، مع غياب ضمير المؤرخ المفترض حضوره، ألم أقل لكم إن التاريخ لا يكتبه إلا الأقوياء.
***
إذاً القوي -دولة أو زعيماً- هو السيد دائماً، وعلينا أن نتذكر بأن هناك القوي العادل، وهناك القوي الظالم، وامتداداً لذلك، هناك التاريخ الصادق، والتاريخ المزيف، الأول يعتمد على التوثيق والحقائق والأرقام، والثاني على اختلاق الأكاذيب وتغيير المعالم، وإخفاء كل ما يؤدي إلى كشف الحقائق، وبين هذا وذاك، هناك من يوظف التاريخ لمصلحته، لأهدافه، وللمخطط الذي يفكر به للاستيلاء على حق غيره، مثلما تفعل إسرائيل من عمل عدواني دؤوب للقضاء على معالم الدولة الفلسطينية، ومعها إخفاء هوية الشعب الفلسطيني الشقيق.