فتحت حادثة الأحساء الباب من جديد حول خطر اشتعال الفتنة الطائفية في الوطن، ومن ثم جر المجتمع إلى ما لا يحمد عقباه، ومن أجل الوصول إلى قلب الحدث بدون مقدمات، علينا أن ندرك عواقب التعليم الديني وإعادة إنتاج الفكر الديني الطائفي، وأن نعي أن الوعي في هذا الزمن يقوم على مصدر واحد هو «الشيخ»، لذلك كان تأثير إنكار كبار العلماء لما حدث إيجابياً، وقد تكون خطوة في مشوار الألف خطوة نحو مجتمع السلم الاجتماعي ودولة القانون التي تحمي مواطنيها من الفتن أياً كانت.
لكن قد يبدو ذلك في ظاهره حسناً، لو كانت المرجعية الدينية عند « السنة «، موحدة، لكن الواقع يقول غير ذلك، فالإنتاج الغزير للمشايخ خلال العقود الماضية أدى إلى نشوء مرجعيات عديدة، تختلف توجهاتها السياسية والدينية، فمنهم من يسعى إلى تحقيق التطور والسلم الاجتماعي والحفاظ على الاستقرار، ومنهم يدعو إلى الجمود، ومنهم من يغذي التطرف الديني والطائفي، ومنهم من يدعو لاستخدام السلاح والخروج لمواجهة الرافضة والكفار.
ولو عدنا إلى المرحلة التي سبقت الدولة السعودية الأولى، والتي كانت تحكمها الفرقة والتمزق، كما نقلتها بعض المؤلفات التي كانت توثق تلك المرحلة، مثل كتيب «تاريخ ابن ربيعة»، وغيره، اتسمت تلك المرحلة بكثرة المشايخ وتعدد المرجعيات، فقد كان في كل قرية شيخ دين ومفتٍ، وكان يمثل المصدر الواحد للوعي والمعرفة، وكانت لديهم مختلف الأجوبة لجميع الأسئلة، وقد يكون ذلك بسبب حالة الانغلاق وانعدام وسائل الاتصال مع الخارج.
لكن المفارقة في هذه الظاهرة أنه بعد مرور قرابة الثلاثة قرون، وفي ظل التطور الكبير في العلم والتواصل المعرفي والوحدة الوطنية والاستقرار، عادت كثرة المشايخ والمرجعيات الدينية، وظهر الاختلاف بينهم دامياً في بعض الأحيان، ووصلت نبرة التكفير إلى العامة، والأكثر خطورة من ذلك أنه -أي الشيخ- احتفظ بموقعه في أن يكون مرجعية أي اختلاف في الحوار حول قضية ما، ويظهر ذلك عندما تسمع أثناء أي حوار ساخن المتلازمة الأشهر «هل سألت الشيخ»؟.
كان من أخطاء السياسة أن تعتقد أن إنتاج مشايخ موالين للسلم الوطني هو الحل، وأنهم قد يقومون بدور المصلح الديني للفئات الضالة، وما خفي أن إنتاجهم بهذه الكثافة قد جعل من بعضهم أدوات ضغط، من أجل الحصول على مكاسب خاصة، ثم التقدم خطوات في سلم السلطة الاجتماعية، ومن خلال نظرة شمولية للمشهد في وسائل التواصل الاجتماعي نستطيع إدراك حجم التأثير والقوة لسلطة «المشيخة» الدينية.
بعد عودتهم القوية في بداية الثمانينيات، نجحت قوى التطرف في التأثير على نواحي مهمة في الحياة العامة، كان من أهمها الاقتصادي، فقد قادوا حملة شرسة على البنوك، من خلال التحكم بالرأي العام في مسائل الحرام والحلال في المعاملات المصرفية، وكانوا في نهاية الأمر المستفيد الأكبر، بعد أن وصلت أرقام مكافآتهم إلى خمسة وستة أصفار، وكانت العامة الخاسر الأكبر ، بعد أن تكبدوا خسارة مدخراتهم المالية في كوارث الأسهم في ظل توافق غريب بين القوى المالية و فتاوى التسهيلات الاقتصادية.
كذلك كان النجاح الآخر واضحاً في إثارة قوى الجهاد وإعادة الخطاب الطائفي والتكفيري إلى الواجهة بعد أن كان غائبا لعقود طويلة، ويظهر ذلك في التلاقح الذي حصل لبعضهم مع قوى دينية متطرفة وافدة، وكان النتيجة القاعدة والنصرة وداعش، ولا يمكن بأي حال إنكار التأثير الشيعي المتطرف والمتمثل في الثورة الإيرانية وأذرعتها الطويلة في إذكاء التطرف المكبوت في العقل السني.
في نهاية الأمر لا بد من مباركة الخطوة الإيجابية لكبار العلماء في إخماد الفتنة الطائفية، وفي إنكار الإرهاب الديني، لكن ذلك لا يعني نهاية المشكلة، فالتأجيج الذي يقوده بعض رجال الدين يستدعي إصدار قانون يحظر التحريض على الطائفية، وقبل ذلك يحتاج الوطن إلى مرجعية قانونية عليا تقوم على المقاصد الشرعية، وتفصل في مختلف الأحكام في جميع القضايا المتعلقة بالشأن العام والخاص، وذلك من أجل إيقاف مرجعية «سألت الشيخ حفظك الله»!.