ما زلت أذكر اللحظة الأولى التي اضطررت فيها إلى التفكير في مسمى الشيء ومدى انسجام الاسم والمسمى. كنت في بيت الطلبة التابع لإحدى الجامعات الألمانية وسألني ذات يوم زميل السكن الألماني عن المقابل باللغة العربية لكلمة .Universitaet
كان ذلك الزميل واسع الثقافة ومحبا منصفا للحضارات القديمة، ويرى أن كل الحضارات بدأت في الشرق. سألته إن كان قد قرأ كتاب الباحثة الألمانية سيغريد هونكه (شمس الله تسطع على أرض الغرب) فقال نعم وإنه أعجب كثيرا بقصيدة الرندي: لكل شيء إذا ما تم نقصان، التي يرثي فيها الأندلس، وأوردتها الباحثة الألمانية مترجمة في كتابها.
أجبته على سؤاله بأن الكلمة باللغة العربية هي جامعة، فقال وما معنى هذه الكلمة؟. حاولت أن أشرح له بما لديّ من إمكانيات طالب أجنبي من التمكن بالألمانية: معناها المدرسة العامة التي تجمع كل شيء.
هز رأسه ببطء فأدركت أن معنى التسمية هكذا لم يدخل دماغه. قلت له مستدركا إن علماءنا العرب القدماء كانوا يسمونها دار العلوم، وهنا رفع رأسه وبحلق بعينين مفتوحتين قائلا: ممتاز هذا اسم ممتاز. طلبت منه بالمقبل أن يشرح لي معنى كلمة Universitaet عندهم، فأجاب: بأنها تعني المكان الذي نبحث فيه علاقة الجزء بالكل والكل بالجزء، فمقطع Uno معناها الوحدة، وكلمة Versus معناها المختلف أو المتعدد.
في جلسة أخرى ناقشنا المقابل لكلمة ضمير بالعربية، التي يسمونها بلغتهم Gewissen» «. أجبته بأن العرب يعنون بكلمة ضمير ذلك الشعور المستبطن داخل الإِنسان بالصواب والخطأ. شعرت بإعجابه لجمال الربط في اللغة العربية بين الكلمة والمعنى. شرحه للمقابل لكلمة ضمير بالألمانية Gewisson كان أن الكلمة مركبة من مقطعين تعنيان معا العلم أو المعرفة المستبطنة داخل الشخص بالصواب والخطأ دون حاجة إلى تفكير، وعبرنا معا عن التشابه الشديد في المعنى رغم اختلاف أصول اللغة.
استأنف شرح الزميل الألماني لكلمة جامعة بلغتهم. قال نحن الأوروبيين أخذنا الكلمة من مسمى الكون Universum الذي تشكل الأجزاء الصَّغيرة المختلفة منه وحدة كاملة اسمها الكون.
بعد ذلك لم أنقب لعشرات السنين في دلالات الأسماء على المسميات، ربما لانشغالي بالدراسة، وأيضاً لأن الموضوع كان خارج اهتماماتي الذهنية الموروثة، باعتباره مجرد ترف فكري. فيما بعد، لا أدري متى بالضبط، بدأت بدون سبب واضح أعود للربط بين الاسم والمسمى عند نقطة البدايات الأولى للتسمية، فوجدت ذلك ملهما أحيانا ومسليا في أحيان كثيرة.
علماؤنا العرب القدامى سموا الجامعة دار العلوم أو دار الحكمة، أيَّام كانوا يبحثون عن العلوم بعقولهم ثم يأخذها الآخرون عنهم. بعد أن فقدوا الصلة الفكرية الذاتية بالبحث العلمي فقدوا التسمية واستبدلوها بترجمة اجتهادية، لكنها غير أمينة ولا تطابق الاسم المعطى للمسمى عند من أصبحوا يمتلكون العلوم فيما بعد.
أعتقد أن مسمى جامعة مجرد مثال واحد على ارتباط التسميات الأولى بفكر البدايات، وتحمل كوامن عن المستوى الفكري في الزمن الذي تم فيه اختيار ذلك الاسم للمسمى. لنأخذ مثلا الكلمة العربية (الكون)، ويقابلها باللاتينية Universum. توجد في اللغة العربية في كلمة كون دلالة إيمانية عميقة، بما تعبر عنه عن بدء الخليقة بأمر الخالق للمخلوق، أن كن فيكون. لربما لو توسعت تاريخيا، لاستطعت القول إن الشرق العربي كان مهد الديانات السماوية وكانت فيه البدايات الأولى للديانات التوحيدية. ومن هنا جاء الارتباط الأول بين التسمية والمسمى في كلمة الكون.
الحضارة الإغريقية والرومانية لم تعرف التوحيد إلا متأخرة، وكانت عباداتهم متعددة التأليه. تسميتهم القديمة للكون بما يقابل الواحد في المتعدد والمتعدد في الواحد تنسجم مع مستوى تفكيرهم آنذاك.
الأمثلة كثيرة على دلالات البدايات الفكرية في التسميات الأولى، لكنني أقترح على من يجيد لغة أجنبية محاولة التنقيب عن دلالات التسميات في كلمات مثل القضاء والقاضي والحكم والضمير، ومقارنتها بدلالات ما يقابلها في اللغة الأجنبية. اللغة هي روح الحضارة الإِنسانية ومن يفرط فيها يفقد روحه.