تبنّى الأدب الغربي القطار، وظّفه في السرديات، في الرواية، وفي الشعر.. يلتقي المسافر بمسافر آخر.. يتعارف.. يتبادلا معاً الأحاديث.. وما إن يقف القطار عند محطة الوصول حتى يتفرقا، ويحتفظ القطار بذكرى اللقاء.. ورحابة الحديث.. وعلاج المشكلات..
لم يكن القطار الذي قدمته لنا الأفلام والمسلسلات مقطورات متصلة ببعضها فقط.. إنما كبائن منفصلة، مغلقة، مهيأة للراحة، والتأمل، والعزلة عن الضجيج الخارجي.. وصخب الأطفال.. ترتبط المدن البعيدة نسبياً بالقطار في مختلف الدول الغربية، وبعض من الدول العربية..
وتنفصل مدننا دون أن يلم شتاتها قطار واحد، سوى سكة قطار يتيم تربط جزءاً من الوسطى بالشرقية.. فهل، وقطارنا متقلص، نحن مهيأين لتوظيفه في سردياتنا، وأشعارنا..
* الأديب (زياد جيوسي) من رام الله يذكر أنه لم ير القطار سوى عام 1975م حين قرر أن يجرب ما هو القطار فذهب من بغداد إلى البصرة وكان طالباً.. وذكر أنه كان يحلو له أن يجلس في مقهى الحجاز في الشام ليتفرج على القطار القديم.. ويظن أن الكثيرين مثله لم يعرفونه، ليس ترفاً، ولكن لفقدانه.
* وقد حكى الدكتور (دنحا كوركيس) من الجامعة الهاشمية في الأردن أنه في رحلة له من شمال (إنجلترا) إلى (لندن) عام 1974م كان جالساً بجانب سيدة إنجليزية تقرأ إحدى قصص
(آرسين لوبين) التي يجري أحداثها في قطار..
* سألته السيدة: من أين أنت؟
- قال: من العراق.
* فصعقه سؤالها، وأين العراق؟
- قال لها: إنها بلاد السندباد، وعلي بابا، وجحا وحماره.. تكلم معها (كما يقول) حتى أنساها القطار.. وكان يجهل وقتئذ أن القطار خير ملهم للأفكار، وأن ثقل ما يقرأه الغرب على متنه، في يوم واحد، لا يتحمله حمار.
* (السيد نجم) أديب مصري يركب القطار مرتين أسبوعياً للسفر إلى الإسكندرية منذ حوالي ست سنوات، ويرى أنه محور لعمل أدبي، وبدأ في تسجيل بعض الخواطر والشخصيات..
* فهل نترقب سردا غنيا بأحداث القطار، ونحن نقرأ أن أحد أسباب الحرب العالمية الأولى وصول السكك الحديدية إلى البصرة.
القطار شكل قيمة في حياة الكتاب والأدباء والشعراء والفلاسفة. قد لا تكون دائما قيمة إيجابية لكنها تعتبر قيمة معلوماتية ومعرفية لنا عندما نعرف أن فرانتس كافكا قال: القطار أوحى لي فكرة مجموعتي القصصية «سور الصين» بجانب هذه الأقوال لشخصيات غيره لنرى ماذا قالت: الشاعر الروسي «فوز نيستيسكي»: في القطار كتبت ملحمة «المهرة». الشاعر الألماني «جارلز باكوفسكي» في «يوميات عجوز» يبدو كرهي للقطار. الشاعر غوته: القطار مثال للرداءة. الأديب نيكولاس لينار: القطارات ضيوف بشعة تفترس الطبيعة. جرهارد هاوبتمان: وقصته الرائعة «تيل عامل القطار» كمثال للسرد الواقعي. إينشتاين: في القطار ساهمت في أبشع اختراع.. «القنبلة الذرية». الأديب فيليب سوللر: بسبب القطار أصبحت مدمنا. الروائي د. هـ. لورنس: وميلاد أعنف قصة حب وأخطر ثنائي أدبي في القطار. إجاثا كريستي: وجريمة قتل في قطار الشرق السريع. الأديب التركي «يشار كمال»: تحولت سعادة الشاب إلى أسى وحزن بسبب لقاء في القطار.
الفنان سلفادور دالي الذي كان يكن كل عشق لزوجته جالا منذ أن كانت زوجة للشاعر «بول إيلوار» فكان على حد قوله يحبها أكثر من نفسه وأكثر من أمه وأبيه ولهذا فإنه كان يمتطي معها القطار ويجوب بها أرجاء أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية كي يجد الوقت ليتحدث معها تاركا فرشاته ومرسمه وراء ظهره، ولقد بلغ عشقه للقطار ذلك الذي كان يلتقي فيه ومعشوقته جالا إلى الحد الذي أظهره لنا في الكثير من أعماله ولوحاته التشكيلية التي أثرى بها عالم الفن.
الشاعر العصامي «جارلز باكوفسكي» والذي ولد في إحدى المدن الألمانية عام 1920م.. وعندما بلغ الثانية من عمره رحل به والده إلى أمريكا حيث نشأ في لوس أنجلوس ولا زال يعيش فيها.. له من النتاج الأدبي أكثر من عشرين مجموعة شعرية ومئات القصص القصيرة وبعض الروايات والتي أكد على أن في بعضها - خاصة رواية «يوميات عجوز» - وهي سيرة ذاتية - صراحة كرهه لمدينة نيويورك وذلك بسبب القطار حيث أنه ذهب قاصدا إياه ذات يوم وكان لا يملك في جيبه سوى سبعة دولارات فقط، وكانت محطة القطار في ذلك اليوم شديدة الازدحام ، وبعد أن وصل إليها عاملوه الناس بقسوة وطرحوه أرضا أكثر من مرة وسط الظلام، وعلى الرغم من ذلك إلا أنه إستطاع الوصول إلى شباك التذاكر ولكنه لم يجد الدولارات السبع في جيبه مما اضطره إلى أن يعود خاسرا بذلك الفرصة الذهبية التي كان يريد أن يسافر بالقطار من أجلها وهي حضور أمسية شعرية كان يقيمها بعض الشعراء في فيلادليفيا، ولقد تكرر هذا المشهد معه أكثر من مرة مما سبب لديه كرها لنيويورك وللقطار على وجه الخصوص.
ويعد الشاعر الألماني «البرتفون شاميسون» أول من وصف القطار وصفا دقيقا وذلك في قصيدته «الحصان البخاري» والتي ظهرت عام 1830م حيث قال:
يا حصاني البخاري
أنت مثال للسرعة
وراءك تترك الزمن وهو يعدو
وتسرح الآن متجها نحوالغرب
بينما بالأمس كنت آتيا من الشرق
سرقت سر الزمن
أرغمته على أن يتراجع بين الأمس والأمس
اضغط عليه يوما بعد يوم
حتى أصل ذات يوم إلى آدم!
هناك الكثير الكثير من أدبيات القطار وموقف مرتاديه منه من أدباء الغرب ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه كيف هي علاقتنا بالقطار؟ كيف هي علاقة من يتخذونه وسيلة يومية للذهاب لمقار طلب العلم ومقار عملها وأسباب غيرها؟
خالص ودّي