الفساد الإداري والمالي أمر حتمي في أي مجتمع من المجتمعات، كحتمية المرض للإنسان. فلا إشكال فيه ما لم يغلب، فيصبح الفساد هو الأصل، فتصبح الرشوة والاختلاس والمحسوبية هي الأعراف السائدة التي لا يشذ عنها الا الأحمق عرفا في المجتمع الفاسد . فمتى غلب الفساد الإداري والمالي، زاد الفساد باطراد وأصبح السكوت عنه ضرورة وحكمة، كالمرض ينتشر في أعضاء الجسد حتى يصبح في علاج بعضها خطرا على حياة الإنسان، إلا أن يُبتر العضو كله.
وفي المجتمعات التي ينتشر فيها الفساد، يصبح الوقوع في الفساد وعدمه هو مسألة فرصة استثمارية إن اغتُنمت فاز صاحبها، وان ترفع عنها، عاد تفويته لها بالخسارة والضرر عليه.
ولهذا فالمجتمعات التي يهيمن عليها الفساد، تُجبر أفرادها على الإفساد العام لكي ينجو الفرد بنفسه، فلا يصبح المُترفع عن الفساد هو بذاته محل فساد المجتمع.
فمن ينضم لشلة الفساد الإداري والمالي، يعلو شأنه في المجتمع ويكثر ماله وتُلبى طلباته. ومن يأبى الانضمام لشلة الفساد، يُهضم حقه وحق عائلته ويُطرد من عند الأبواب.
والاعتماد المكثف للمستشار الأجنبي في مجتمعات الخليج مكن من ترسيخ ثقافة الفساد الإداري والمالي فيها، كما أنه أبطأ من انكشاف الآثار الخطيرة للفساد.
فالمستشار الأجنبي في دول الخليج، هو من يقوم بكل أعمال التخطيط والتفكير للإداريين في المناصب العليا في القطاع الخاص والعام، كما أنه يقوم بتنفيذ كل المهام العلمية المتقدمة، كما أنه هو من يصنع ويصمم التطبيقات والنماذج الجاهزة التي تتبعها الشرائح الإدارية والتنفيذية الوسطى. فالاعتماد الكلي على المستشار الأجنبي سلب قدرة التفكير والتحليل عند المواطن الخليجي -في الغالب-، وجعل من دوره -مهما علت مرتبته الوظيفية- لا يتعدى دور مدخل البيانات في جهاز الكمبيوتر. وهذا ساعد كثيراً في جعل الفساد ككرة الثلج. فلم يعد هناك من حاجة للكفاءات الوطنية، ففي المستشار الأجنبي الكفاية والأمن من منافسة الوطني وظهوره.
فمتى حانت فرصة الفساد لفرد ما فقبل بها، تناقلته السواعد والأيدي والألسن والأحاديث، حتى ترفعه إلى أعلى المناصب الإدارية في القطاع الخاص خاصة. فالقطاع العام قد تحكمه البيروقراطية في الترقية. فإذا بفاشل الأمس، قد أصبح خبير اليوم، فهو يتصدر اللجان والاجتماعات المشتركة بين القطاع الخاص والعام ، والشرط أربعون له عشرون ولهم عشرون.
وأما إن رفض الفرد فرصة الفساد، تكالبت عليه المكائد والحيل واختلقت عليه الاحاديث وحرفت عنه القصص حتى يُنفى إلى عالم الحمقى فيُحتجز في عالم النسيان والإهمال.
فالمستشار الأجنبي خلق الخبرة الوهمية المزيفة التي أعطت الحجة لتمكين الفساد من اللجان والمناصب الإدارية، وبالتالي من اتخاذ القرارات المُكلفة، التي تكفل النفط الى الآن لإخفائها.
ولهذا تميزت بعض دول الخليج عن بعض في تحقيق النجاحات. فالتفاوت بين بعض دول الخليج في الكفاءة وفي نسبة الفساد الإداري تعود إلى مستوى الاعتراف بهذه الحقيقة المؤسفة. فقلة تعداد السكان المواطنين في بعض دول الخليج جعلتهم يسندون المناصب الإدارية والمهنية العليا، مباشرة للمستشار الأجنبي، مما يؤهله للمشاركة في اللجان واتخاذ القرارات، فيقتصر الفساد فيها على مصالح معدودة . بينما في دول أخرى يبقى المستشار الأجنبي في الظل، وتسلط الأضواء على الاسم الوطني، مما يؤهله للمشاركة في اللجان واتخاذ القرارات، وهذا مما ضاعف الداء أضعافا مضاعفة. فمستشار الظل الأجنبي يخلق خبرة وهمية لأشخاص لم يستفيدوا قط من عملهم إلا مهارات المحافظة على المنصب بالتملق الاجتماعي الوظيفي والتقعر الخطابي ومكائد إبعاد الوطني الكفؤ، وتبادل المصالح على نطاق واسع. وهذا يضاعف الفساد أضعافا كثيرة، فعلى هذا الوطني ذي الخبرات الوهمية واجبات وديون كثيرة للأيدي والألسن التي رفعته فمكنته. وهذا مما أقعد بعض الدول الخليجية في مشاريعها التنموية عن اللحاق بمثيلاتها من الدول الخليجية.
وعلى كل حال، فالخبرة الوطنية المزيفة، هي عامل مشترك بين دول الخليج كلها، وهي في القطاع الخاص أكبر مصيبة من القطاع العام. فقد يعترف القطاع العام أحيانا بهذه المشكلة، أما في القطاع الخاص فالخبرة المزيفة فيه مضاعفة، زيف وإنكار وتعالٍ على القطاع العام.