الاستعمال المجازي للكلمات الحساسة، يُطفئ فيها فَقاعة اللون، ويُسَرِّب حشد المشاعر. ويُخيِّب آمال المترصدين، الذين يحلو لهم الصيد في المياه العكرة.
وما أوذِيَت المشاهد، وما لُغِّمت منافذها، إلا بيد هذا الصنف النَّزقي.
إذ ما من أحد منهم يستشعر مقولة: [لَعَلَّ له عُذْراً وأنت تلومُ]
أقول قولي هذا، لأن هناك من سيقفز إلى ذاكرته حديث:
[لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر]، وَوَصْفُ الزمن بالهرم نوعٌ من السب المحظور. ذلك ما أتوقعه من بعض [المتورعين].
ما عليَّ، فأنا أتوفر على أكثر من نافقاء. إذ الكلمة لها معناها [الوضعي] - وهو سيد الموقف - ولها معناها [السياقي]، و[العرفي]، و[المصطلحي]، و[المجازي]. ومن أي الثنيات تسللت، نجوت.
وقديما قيل: [عجبت لنحوي يلحن] لأنه يجد مخرجا، على سنن: [فيها قولان].
والمجاز، والتأويل غابةُ متاهةٍ، يلوذ بها أصحاب المذاهب العقلية.
لا أود إيقاظ فتنة المجاز في الذكر الحكيم، إذ أشرت إلى موقفي منه، في أكثر من موضع، وأيقنت أن المجاز من جماليات اللغة، ومجال ثرائها، والقرآن أحق به؛ لأنه نزل بلسان عربي مبين، ومن ثم فإنه يتوفر على نحوها، وصرفها، وبلاغتها.
ولي في قبول المجاز في القرآن شَرْطٌ، لا ينزع من لغة القرآن جمالها، ولا يمضي مع المتوسلين بالمجاز، لتمرير تأويلاتهم الباطلة.
القول بهرم الزَّمان استدعى تلك المِصَدَّات، والتحفظات. ولسنا ممن يتمنى لقاء الخصوم، فأنا في هذه السن [أَخْطَلِيٌّ] يلقى خصومه [الجَرِيرِيِّين] بناب واحد. ولو لقيهم بنابين لأكلهم.
نسل هذا العنوان من عباءة [المتنبي]، وكم من عناوين تحمل طابعه، ثم لا تُرَدُّ إليه.
يقول المتنبي:
[أتى الزََّمَانَ بنوه في شبيبته:
فسرَّهم، وأتيناه على الهَرَمِ]
فساءنا. وهذا من إيجاز الحذف.
- فكيف يأتي تصورك لهذا الموقف؟
- ومتى يهرم الزمان معك، ويشب مع غيرك؟
من اليسير جدا أن تتصور الموقف، غير أن هناك حالةً نفسيةً، تشاؤميةً، تصم الزمن بالهرم، وما هو بِهَرم.
وإذا كان الذكر الحكيم قد اتسع للمجاز مع الذات الإلهية في قوله:
{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} و{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} بحيث نسب الله إلى نفسه [النسيان] و[المكر]، وجل الله عن النسيان، والمكر المعهودين في المخلوق، فإن وصف الزمان بالهرم مستساغ على هذا التخريج البلاغي الدقيق.
هذه الأمة بما تنطوي عليه من قدرات معطلة، وما تتوفر عليه من إمكانيات مشتتة، تحولت إلى شمطاء، شاب وليدها، لأنها في زمن بلغ أرذل العمر، ولم تعد بقادرة على النهوض من كبوتها. فهي كحال [المتنبي] مع المصائب:
[وكُنْتُ إِذا أصَابَتْنِي سِهَامٌ :
تَكَسَّرت النِّصالُ على النِّصالِ]
وهي أمام كل مصيبة تتمتم، متسائلة باستنكار، واستغراب:
[أَبِنْتَ الدَّهْر عندي كُلُّ بِنْتٍ :
فكيف خَلُصْت أَنْت مِنَ الزَّحام]
كان الناس من قبل في خلاف مع سلطاتهم التشريعية، وفي انسجام مشوب بالحذر مع سلطتهم : الدينية، والمجتمعية. وكان الصراع لا يتخطى اللسانَ إلى السنان، حتى لقد يراه البعض من باب الرياضة الفكرية، وملءِ الفراغ.
وقد يكون من باب المعارضة المنظَّمة، التي لا تُهَدِّد بالفوضى الهدامة، ولا ترقى بالحال إلى اختلال الأمن. وكانوا مع سلطاتهم يتجاذبون [شعرة معاوية].
أما اليوم فإن كلَّ رويبضة أمَّةٌ وحده، يتقول على أهل الشأن، ويمسح عارضيه مردداً:
[نحن رجال، وهم رجال] يبادر الفتيا في النوازل المصيرية، ظنا منه أنه ابن بجدة الملمات، وجذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، وأن مِنْ حقه منازعة الأمر أهله، وإذا قيل له: {اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} وحسب هذا النوع مزبلة التاريخ.
ولكن كيف يتآتى لك الأطر، وأنت في زمنٍ يخذل أهله، زمنٍ هرمٍ، يستاء منه أهله، مثلما يَسْتَرُّ من كان زمانهم في عنفوان الشباب.
أمة يستحر فيها القتل، ويتأله الهوى، ويطاع الشح، ويتعاظم الإعجاب بالأنفس، لا يمكن أن تخلص من بؤر الفتن.
لقد بَرِمْتُ مما يُسَرَّبُ إِليَّ، عبر مختلف [المواقع] و[برامج التواصل]، وأيقنت ان شراً مستطيراً، يحث صوبنا خطاه، وحق لمثلي أن يتساءل:
{أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}.
يا لها من أحوال متردية، تنذر بالخطر، والناس في سكراتهم يعمهون. لقد كانت هناك خطوط حمراء، وسقف للحرية، واحترام لذوي الهيئات، وتأدب مع ذي الشيبة، هناك التزام ديني، وولاء، وسمع، وطاعة، وتقدير للجماعة، وتمنع عن الفتيا، وتحرج من القول بغير علم، حتى لقد أثر عن الصحابة مدافعتهم للفتيا، خوفاً من القول على الله بغير علم.
وكانت الأمور إذ ذاك تسير من حسن إلى أحسن، وإذا نَدَّ نكرة، أسرع الناس إلى رده رداً جميلاً، يحفظ حقه، ويحترم كرامته، ويوقظ فيه كوامن الحق، وذلك هو الحجز، ولأخذ بالحَجْز المشروع. أما اليوم فالأمر مختلف جداً، تصنيف، واستعداء، وإفك مفترى، وتضخيم لوقوعات عارضة، وتمكين للنفس على حساب الحق.
ذلكم الهرم، بل ذلكم أرذل العمر.
- فمن يستطيع إعادة الشباب إلى زمن عُمِّرَ حتى نُكِّسَ؟
فأصبح لا يعلم من بعد علم شيئا، على الرغم من توفر الإمكانيات، وتنوع القدرات.
حرب شرسة بين أطياف المجتمع الواحد، كل طائفة تصب جام غضبها على المخالف، وتستحل دمه، وعرضه، مع إمكان التعايش، وتداول الرأي، واحترام المخالف. فالمشاهد تتسع لكل خطاب، متى جُوِّدَت الإدارة، وأتقن الأداءُ.
إن الحِدَّة، والحَدِّيَّةَ التي يأخذ بها المأزومون، ستؤدي في النهاية إلى التفاني، وتمكين الأعداء من رقاب الأبرياء. على الرغم من أن الدين يسر، يقوم على التسامح، والاجتهاد، والتفسح للمخالف :
[الدين يُسْرٌ، والخلافةُ بيعةٌ :
والأمرُ شورى، والحقوقُ قضاءُ]
ولو أن المختلفين، حين تلعب الأهواء بأفكارهم، يَرُدُّون المتنازَعَ فيه إلى الله والرسول، ويتخلصون من اختياراتهم المرتجلة، وتأويلاتهم الباطلة، لكان بالإمكان تفادي التنازع المفشل، والمذهب للريح.
إن المتابع للأخبار، والحوادث المرصودة بالصوت، والصورة، يقطع بأن الأمة مرتهنةٌ لزمن هَرمٍ، فَقَدَ صلاحيتَه. ولم يعد مؤهلا للحراك من خلاله.
ولقد يأتي يومُ لا ينفع فيه الندم، ولا يفيد فيه التراجع، لأن كل القيم الحسية، والمعنوية ذهبت سدى.
لربما يُلَوِّحُ البعض بـ[العلمنة] كحل وسط، على سنن:
[وداوني بالتي كانت هي الدواء]
وكم نسمع من يُلَوِّح بـ[خضراء الدمن] بوصفها رهان الأخسرين أعمالا. إنه زمن جئناه على الهرم، فساءنا. ولم يبق أمام ركام المشاكل إلا العناية الربانية.
فكم لله من نفحات، تهب نسماتها في اللحظات الأخيرة. {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
ربما لا تكون لنا إدارة نافذة مع دورة الزمن، ولكن اليأس حين يحكم قبضته، تتعطل لغة الكلام، ثم لا يكون إلا الاستسلام، وذلك مالا يقبله الإسلام، ففي الصحيح عند الترمذي: [إذا قامت الساعة، وفي يد أحَدِكم فَسِيْلة، فلْيغْرِسْها]، وفي الدعاء المأثور: [اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور].