لقاء بحثي حول الخليج
بين العصف المصيري والعصف الفكري
بدعوة من المركز العربي للبحوث ودراسة السياسات شاركت مع ثلة من الباحثات والباحثين من الوطن العربي في المؤتمر السنوي الثالث للمركز الذي خصص هذا العام لبحث سؤال توجهات رياح التحولات بمنطقة الخليج
تحت عنوان «دول مجلس الخليج العربي: السياسة والاقتصاد في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية».
على أنه وإن بدا لي بأن عنوان المؤتمر أميل إلى التحفظ مما قد تقترحه تحديات المرحلة، فقد توسمت في انعقاد مؤتمر يبحث الواقع الخليجي بارقة أمل «لتخفيف» استفراد السياسي الرسمي بشؤون وشجون المنطقة ولإدخال أصحاب الرأي والمشورة المعرفية من القوى الاجتماعية المختلفة على خط التفكير المشترك للدولة والمجتمع. والحقيقة أن الإشارة إلى عنوان المؤتمر ما كانت لتستحق أن تثار لولا أنها تبدو كتعبير عن حالة التحفظ العام التي تحيط بكل ما يتعلق بالسؤال المعرفي والبحثي في الشأن الخليجي. فعلى الرغم من أن منطقة الخليج تعيش اليوم حالة غير مسبوقة من العصف المصيري، إلا إنها نادراً ما تتداعى إلا في أضيق نطاق لعصف فكري نقدي يقرأ إشارات المحاق أو يسمح للزرقاء بالتفكير التنبؤي في أي اتجاه قد تجري تحركات الشجر. ليس اليوم من لا يرى بأننا نعيش لحظة ملتهبة جعلت أقدار منطقة الخليج تتقلب على جمر من القلق الوجودي وليس السياسي وحسب، بل جعلت المنطقة برمتها بطوقها الجغرافي القريب والبعيد تعيش في مهبات غامضة من المخاوف الاستخبارية والعسكرية والانقسام والتفتيت والتذابح الطائفي والمجهول المبهم وإن بانت أنياب الهيمنة وشهواتها المشبوهة. كما أن ليس اليوم إلا ومن يخمن بأن ما يجري يحتاج لاجتراح أسئلة وبحث وفكر نقدي مجدد بقدر ما يحتاج لاجتراح استراتجيات وآليات جديدة للعمل لأن ما يجري يأتي خلافاً لخبرة وتاريخ عدد من التقلبات المفصلية السابقة التي عاشتها المنطقة بدرجة نسبية من طمأنينة النفط والتحالفات العتيدة التي جنبتها في حينه حدة المواجهات مع سؤالي السياسة والاقتصاد ومع سؤال علاقة الدولة والمجتمع وكذلك مع سؤال النظام المحلي والنظام العربي والإقليمي والدولي. بناء على هذا الواقع وفي ضوء هذا المنطلق في فهمه، منطلق أن مصير الخليج ليس شأناً رسيماً فقط ولا يصح إلقاء مسؤوليته على أكتاف القيادات السياسية وحدها أو تركها للحلول الأمنية وحدها تأتي الأهمية البالغة لعقد لقاء تساؤلي حول الحاضر والمستقبل.
***
على الطريق إلى اللقاء
وقفة على جسر الأسئلة بين النسوي والسياسي
بعد انقطاع في عمل جاد ومضني على البحث الذي قبلت ترشيح تكليف القيام به في غضون شهرين، توجهت مساء افتتاح المؤتمر إلى مطار الملك خالد بالرياض في ما يشبه الوفد من كتاب الرأي والباحثين والأكادميين السعوديين متجهين إلى الدوحة. وكان أول واقع مؤلم من واقع دول مجلس التعاون شهدناه أن تصريح السفر لم يكن سارياً لشابة من المجموعة. وكان السؤال لحل هذه الإشكالية التي تبدو صغيرة وما هي بصغيرة سؤالين. كان السؤال النسوي السياسي، إلى متى يصادر حق إنسانة بالغة راشدة عاقلة تحمل مؤهلاً علمياً في السفر لعمل إلا بتصريح من ولي أصغر أو أكبر، أقل علماً أو رأياً. وهو سؤال لماذا لا تتولى المواطنة شأن نفسها عند بلوغها سن الرشد القانوني؟ بل لماذا ليس هناك سن رشد للنساء في بعض دول مجلس التعاون إلى الآن؟ السؤال الثاني كان سؤالاً سياسياً ووطنياً، وهو لماذا تحتاج امرأة إلى تصريح للتنقل بين دول تطمح قياداتها إلى تطوير مجلس التعاون إلى اتحاد كما اقترح خادم الحرمين الشريفين عام 2012م وكما طرح مؤتمر قمة مجلس التعاون الأخير بالدوحة بالتزامن مع هذا المؤتمر لمركز البحوث. لذا كان علي كمتحدثة باللقاء (عن بحث يتناول مسألة النساء والنفط مما سأكتب زبدته الأسبوع القادم) أن أسر ذلك الموقف في نفسي لريثما أطرحه على شكل سؤال من الأسئلة المقلقة في الشأن الخليجي. وهو سؤال أهلية المواطنة والمواطن بالخليج للمشاركة الحقة في الشأن الوطني. فكما قال عنترة بن شداد غير الحر لا يحسن الكر والفر، أي بلغة اليوم المواطن الحر الآهل هو من يحسن حماية الأمن الوطني فكرياً ومادياً. فليس بتحويل القوى الاجتماعية النشطة إلى مستضعفين تستقوي الأوطان.
***
لقاح اسمه الإصلاح
إذن بالإضافة لجدل ضرورة مواجهة العصف المصيري بالعصف الفكري والنقدي بمنطقة الخليج مما ناقشته في الفقرة الأولى من المقال وأيضا بالإضافة لضرورة الارتقاء بالشراكة الوطنية لمواجهة تحديات منطقة الخليج مما ذكرته في النقطة الثانية، تبقى هناك بضع نقاط أخرى مما أريد إضافتها عن مؤتمر دول مجلس التعاون: السياسة والاقتصاد في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية.
تطرح الورقة الخلفية للمؤتمر التي صيغت على أرضيتها عناوين البحوث وأوراق العمل المختلفة للقاء عدة نقاط جوهرية فيما يعد تحديات دول مجلس التعاون في ظل المتغيرات. فهناك التحدي الاقتصادي بمستوياته المتعددة. مستوى القلق من ورقة النفط في اللعبة الدولية بين روسيا والصين وأمريكا وخاصة في تأثيرها السياسي والعسكري على تحالفات المنطقة والحروب المحيقة بها، ومستوى القلق من تطور مصادر جديدة للطاقة تحل محل النفط أو تقلل الطلب العالمي على هذه السلعة مما قد يخسف مردوده المالي بأكثر مما كان الأمر في سنوات عجاف سابقة. ومستوى القلق الاقتصادي الثالث هو المتمثل في طبيعة النظام الريعي الذي حول الدولة إلى الاعتماد على بيع هذه النفط في الأسواق العالمية كمادة غفل وحول المجتمع إلى اعتماد على الدولة مع عدم تطوير قاعدة إنتاج وطني اقتصادياً وعدم تطوير بدائل سياسية تستمد منها الدولة شرعية جديدة لنظامها ترتبط بالأداء الوطني. وهناك التحدي السياسي في ثلاث دوائر هي الدائرة العربية والمتمثلة في تحدي مدى قدرة المنظومة السياسية لدول مجلس التعاون على التصدي للعب دور المركز العربي بعد تداعيات الربيع العربي كما تحاول بعض دول المجلس. أما التحدي في دائرته الإقليمية فيتمثل في التحدي الإيراني من ناحية وفي التحدي الداعشي من ناحية أخرى. هذا ناهيك عن تحدي الصراع العربي الإسرائيلي الذي وإن انخفض منسوبه على مستوى رسمي فإنه لا يزال يشكل هاجساً مشروعاً على مستوى المجتمع العربي والخليحي. ويبقى تحدي الدائرة الثالثة سياسياً والمتمثل في تصاعد الصراع الأمريكي والروسي والصيني في المنطقة مع قلق دول مجلس التعاون من غموض أو تذبذب الموقف الأمريكي تجاه تحالفاته التاريخية مع هذه الدول.
إن هذه النقاط تشكل مجملا موجزا لتحديات دول مجلس التعاون بمستوياتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية وبدوائرها العربية والإقليمية والدولية خاصة في ظل توالد التعالق الأمني للحرب على الإرهاب ما بعد 11/سبتمبر 2001 مع مستجدات الصراعات المسلحة لما بعد الربيع الربيع العربي. أما التحدي الأكبر الذي لا يمكن مواجهة أي من هذه التحديات بدونه فهو تحدي الإصلاح الوطني الجاد على مستوى إصلاح النظام السياسي لكل دولة من دول مجلس التعاون الخليجي وعلى مستوى بنية منظومة المجلس ككل. ولذلك أطلت على مائدة المؤتمر عدد من المسائل الحيوية التي لا تحتمل التأجيل أو التقتير أو الاكتفاء بالتلويح بها فقط.. فتصدرت أعمال اللقاء مسألة المشاركة السياسية، مسألة سقف الرأي العام بين ثقافة الطاعة وبين الفكر النقدي، مسألة البطالة، مسألة دولة الدستور والقانون ومسألة المساواة وواقع النساء بالخليج كعناوين ملحة على أجندة تحدي الإصلاح الذي على دول مجلس التعاون ألا تخشاه إن أرادت الهروب من قدر التواكل إلى قدر الاستقلال.
وإن كنت هنا أكتفي بعرض عينة من قائمة تلك العناوين الملحة من أطروحة لقاح الإصلاح لتحصين سلام المنطقة دولاً ومجتمعاً والحفاظ على استقرارها بما لا يجهض التحولات الإيجابية المنتجة في نفس الوقت الذي لا يقوضها بقضها وقضيضها، فإن مضمون البحوث وأوراق العمل التي حملت تلك العناوين مسألة تستحق وقفة نقدية فيما سيأتي من مقالات. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.