يواجه الشيخ أحمد الغامدي حملة قاسية جدًا بعد ظهوره مع زوجته كاشفة وجهها في برنامج «بدرية» على شاشة «أم بي سي»، وأعتقد أن ما حدث لا يدخل فقط في قضية اختلاف فقهي حول غطاء وجه المرأة، ولكن هو امتحان آخر لدغمائية فرض الرأي الواحد، وقد واجه الشيخ عادل الكلباني شيئًا مثل هذا حين قال بإباحة الغناء والموسيقى، وكان الرد قاسيًا وغير مقبول من الناحية الموضوعية.
يعد عبد الله القصيمي أشهر مشنق عن المدرسة السلفية - وأنا لا اتفق مع كثير من آرائه -، وقد وصل إلى حد الإلحاد بسبب الهجوم القاسي بعد كتابه الشهير «هذه هي الأغلال 1946 «، الذي وجه فيه انتقادًا حادًا للعقل السلفي، وأنه بمثابة الأغلال على عقول الناس، ولم يخرج القصيمي في كتابه هذا من الملة، لكنه بعد تكفيره وإهدار دمه تمادى في انشقاقه إلى درجة الخروج من الملة مع الأسف الشديد.
والان، وبعد نحو سبعين عامًا من صدور ذلك الكتاب الشهير، لم يتبدل منهج التعامل السلفي مع مثل هذه الآراء، وما زال يفكر بدغمائية صرفة، والزعم بأن أقوالهم غير قابلة للاعتراض بتاتًا، ويعد ذلك مثالاً للدغمائيه التي أقرب للمعصومية والدمغية أو اللا دحضية.
الدغمائية حالة في الجمود الفكري وتعصب حاد لرأي معين، مع رفض للاستماع لكافة الأفكار المخالفة، ورفض الحوار أو قبول أي دليل مضاد لفكرته عند توفره، اعتقادًا من أصحابها أنهم يملكون حق امتلاك الحقيقة المطلقة، وما يأتي به غيرهم باطل لا يستحق حتى المناقشة، مع أنه وإن كان معهم الحق فلا ينبغي أن يلغي مبدأ الحوار والاستماع إلى الرأي الآخر.
لا يمكن مقارنة ما صرح به الشيخان الكلباني والغامدي بما فعله عبد الله القصيمي، ومع ذلك واجها نفس ردة الفعل، التي ربما تبدو أكثر قسوة في ظل انتشار وسائل التواصل الإعلامي والاجتماعي، وقد واجه الشيخ الألباني موقفًا مماثلاً عندما خالفهم في قضية كشف الوجه، وفي صفة صلاة النبي.
مهما حاولنا تشريح ظاهرة الإرهاب والتطرف الديني من دون إدراك تلك العلاقة بين الدغمائية أو التعصب للرأي الواحد والإرهاب، لن نصل إلى حلول جذرية لقضية الإرهاب، وقد تساءلت مرارًا في مقالات سابقة عن كيف نحارب التعصب والتطرف الديني بنفس الداء الذي ينتج التطرف.
عندما نقلب صفحات الماضي في العصور الأولى سنجد أن الاختلاف بين الفقهاء كان هو الثابت، وكانوا لا يتشنجون إن خالف صاحب الرأي مدرسة النقل، لذلك يخالف المنهج الحالي في تعصبه وتطرفه سيرة الفقهاء الأوائل، ولهذا السبب تنتشر ظواهر العنف في العالم الإسلامي، والمفارقة أن الدغمائية كانت صفة العقل المسيحي في العصور الوسطى، وكان الاختلاف وازدهار العلم والعقل سمة المسلمين في بغداد وقرطبة والقاهرة ودمشق.
في مفارقة مدهشة تم تبادل الأدوار خلال قرون، لتتحول باريس وروما من معاقل للتطرف المسيحي الدغمائي إلى مراكز للتنوير والعلم والحكمة، ولتلبس بلاد العرب والمسلمين رداء التطرف والتعصب، وتبدأ حرب شرسة ضد العقل والفكر من التطرف الديني على مختلف أوجه الحياة، ولنا فيما يحدث في العراق وسوريا عبرة، والله المستعان.