من تابع الصحافة ووسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي خلال الأسبوع الماضي بعد التشكيل الوزاري المحدود يلاحظ حجم الاهتمام الكبير بهذه الوزارات وبمن شغلها في هذا التشكيل، وفي الأغلب الكثير وجد الترحيب، مع قائمة طويلة من الملاحظات التي وجهها هولاء إلى الشخصيات
الوزارية الجديدة. وجميع المعينين هم شخصيات معروفه في الشأن العام السعودي، ولهم حضورهم الرسمي والإعلامي.. وتأهيلهم العلمي وخبراتهم الإدارية والتخصصية لها مكانتها في مواقعهم التي جاءوا منها..
ما لفت نظري في هذه المشاركات المتنوعة من شرائح مختلفة في المجتمع وبتعددية الطيف المجتمعي والخلفيات الاجتماعية هو الآراء التي يتم طرحها في كافة شئون الدولة والمجتمع، وتوجد آراء يطرحها هولاء رجالا ونساء صغارا وكبارا وبمختلف مستويات التعليم عن قضايا تعد من كبرى قضايا الشأن العام وبموضوعات تحظى باهتمام الرأي العام. وهنا أتذكر البوفيسور دانيال ليرنر الأمريكي الذي جاء إلى منطقة الشرق الوسط بعد الحرب العالمية الثانية خلال بداية الخمسينيات الميلادية من القرن العشرين ليدرس التنمية في هذه المنطقة حيث أجرى دراسته على تركيا تحديدا وبعض أقاليم منطقة الشام، وكان يرغب في معرفة إجابة على سؤال مهم كان ولا يزال قائما: كيف نصنع التنمية وما هي العوامل المهمة التي تضع التنمية على المسار الصحيح، وتحديدا يبحث في فكرة تحديث مجتمعات الشرق الأوسط.
لقد رأى البروفيسور لينر وهو أشهر من كتب ودرس نظريات التحديث والتنمية وعلاقتها بوسائل الإعلام أن فكر الأفراد ومعرفتهم واستيعابهم للقضايا الكبرى وموضوعات الشأن العام هو أحد مرتكزات التحديث التي تتطلبها التنمية. وقد طرح ليرنر لأول مرة مفهوم التقمص الوجداني Empathy ليحكم من خلاله على مستوى التحديث الموجود في المجتمعات في منطقة الشرق الأوسط.
وكانت منهجيته في هذه الدراسات الشرق الأوسطية والتي نشرها في كتابه الكلاسيكي الشهير The Passing of the Traditional Society (نهاية المجتمع التقليدي) هو سؤال عينته التي اختارها في دراساته وهي عينة من مختلف شرائح المجتمع ومعظمها من المجتمع الزراعي الذي كان سائدا في تلك الفترة، والسؤال الذي تكرر هو (ماذا ستعمل لو كنت...) رئيسا، وزيرا، مديرا لمحطة إذاعية، مسئولا عن تحرير صحيفة، إلخ من المناصب التي كانت تشغل الشأن العام في ذلك الحين.. وكان حكم البوفيسسور ليرنر وهو من جامعة MIT الشهيرة في الولايات المتحدة انه كلما استطاع الفرد أن يجيب ويتخيل مكانه في مكان شخص من الشخصيات العامة في المجتمع ويعطي تفسيرا أو مقترحا أو يتخذ إجراءا أو يتبني سياسة معينة كان ذلك بمثابة بداية عصر التحديث في المجتمع التقليدي.. وفي الجهة المعاكسة، إذا لم يستطع الفرد تخيل - أو بكلمة أدق حسب مصطلحات ليرنر يتقمص - شخصيات عامة سيعني أن هذا الفرد لا يزال يعيش في مجتمع تقليدي حيث إن فكره وثقافته لا تتعدى حدود شئونه الخاصة وما يحيط بها. وكان ملخص دراسته أن منطقة الشرق الأوسط في تلك الفترة نهاية الخمسينيات عندما نشر كتابه الشهير قد بدأت الانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، أو بشكل أدق بدأت في التخلي عن المجتمع التقليدي الذي كان سائدا.
وإذا عدنا إلى مقدمة هذا المقال عن النشاط الواسع الذي قرأناه في الصحف وشاهدناه في المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، فإننا ندرك أن هولاء وغيرهم قد دخلوا مرحلة - وهي ليست من الآن طبعا - من التحديث في المجتمع الذي يزرع في أفراده قدرة التقمص والخيال بشكل واسع، وخاصة في مواقع المسئوليات القيادية أو هيئات الشأن العام في المجتمع. وقدرة هؤلاء الأفراد سواء كانوا من ذوي التعليم العالي أو في تعليم اعتيادي ومن كافة الفئات والشرائح المجتمعية تعكس قوة التفكير والخيال الإداري لدى هولاء في تقمص دور وزير أو مدير أو رجل أعمال أو أستاذ جامعي أو صحافي أو إذاعي أو محرر، واستيعاب الأدوار الإدارية لتلك القيادات والمناصب والشخصيات، وإعطاء رؤية معينة تجاه ما ينبغي عمله من هولاء القياديين في المجتمع. وهذا ما كان يقصده دانيال ليرنر من التقمص الوجداني.. وقدرة الأفراد في استيعاب الأدوار المؤسسية أو الأدوار الوظيفية لشاغلي المناصب التنفيذية في المجتمع..