** نهتمُّ بتأريخ ولاداتِنا، وربما سعى بعضُنا لاقتطاعِ عامٍ أو أعوامٍ منها علَّها تنأى به عن الكهولةِ والشيخوخة، ثم يُنسى ذلك سريعًا، فإذا ارتحلنا جرى اعتمادُ سنة الوفاةِ أساسَ الحديثِ عن العامة والكتابة ِعن الرموز، وحين يُلحقُ الميلاد بها فلعمليةٍ حسابيةٍ يسيرةٍ يُعلمَ بها كم عاش واحدُنا، ولا فرقَ بين من عُمِّر طويلاً ومن رحل سريعًا؛ فالفقدُ متيقنٌ والإنجازُ والإخفاقُ باقيان لمعاييرِ محاسبةٍ مؤقتة، والحساب الختاميُّ لدى اللهِ جلَّ شأنُه.
** تبدو الوفاةُ أهمَّ من الميلاد؛ فهي الحدث؛ يُحكى عنه ويُعزى إليه ويُقارنُ به، ولذا عُنيت بالرحيل عددٌ من كتب التراث مثل: «وفيات الأعيان لابن خَلِّكان» و»تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام» للذهبي صاحب «سير أعلام النبلاء» و»فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي» و»الوفيات لابن الخطيب المُكنى: ابن قنفذ القسنطيني» و»درّ السحابة في وفيات الصحابة للصاغاني» وسواها.
** وفي زمن الشاشاتِ الوامضةِ بما تُفترضُ جدَّتُه صارت إشاعاتُ الموتِ سابقةً قدرَ الله، ومع تعجل التمرير وتعذر التبرير يترددُ الناسُ بين الإثبات والنفيِ وتتيهُ المعلومةُ المتأنيةُ بين الجازم والواهم، وربما انتفض الميِّتُ - كما صنع المتنبي- فزال القبرُ والكفن.
** تبدو الحياةُ بلا قيمةٍ فيعيشُ الأكثرون على هامشها، وإذ تحين الوفاةُ تبتدئُ معازفُ التعريف، فثّمَّ من يبكي ومن يتباكى، ولا يُشيَّعُ الحيُّ بمثلِ ما يُشيع به الميْت، وعندما اتجهنا إلى إعداد ملفاتٍ عن الأحياء، وأَلّف صاحبُكم كتابه: (إمضاء لذاكرة الوفاء) وقصَره على من تُحسُّ أنفاسُهم كان الاستفهامُ الأول الذي واجهه: متى مات فلان كي تكتبَ عنه أو تُعدَّ له ملفًا؟ والإجابةُ المنطقية: الحيُّ أهم فليست قيمةُ الكتابةِ بعد الوفاة بمثل قيمتها قبلها، ويبقى السجالُ دائباً.
** بعدما أصدرنا عددًا خاصًا عن الراحل محمود درويش وقت صحته بعث إلينا برسالةٍ كتب فيها: «هل متُّ ولم أنتبه!»، وقبله قال الأستاذ محمد حسين زيدان رحمهما الله: إننا أمةٌ دفَّانة، وصَدقاً؛ فنحن نستمطرُ دمعةً عابرةً ثم نلهو بشأننا فلا يكاد يُذكر راحلٌ إلا حين يتطوعُ من يَبَرُّ به شخصًا وآثارِه تأريخاً.
** المؤلمُ أن الرمزَ قد يموتُ مرتين؛ تهميشاً في حياته وجحودًا بعد وفاته، وأشدُّ إيلامًا حين يجيءُ التهميشُ القَبْليُّ والجحودُ البَعْديُّ من الأدنين فيحجرون التواصلَ مع أوراقِه ويحتكرون الاطلاعَ على آثاره فيُنسى، وحكى الدكتور عبدالرحمن الشبيلي أنه انتظر خمسة أعوامٍ علَّ أحدًا من خارج العائلة يكتبُ عن السفير الأسطورة: (محمد الحمد الشبيلي «أبي سليمان 1910-1988م»)، وكنا نتمنى لو صدر الكتابُ في حياته كي لا نأسى أنْ لم نرَه وربما لم نعرفَه.
** نحتاج إلى مشروعٍ وطنيٍّ يعتني بتراثٍ يندثر أمام أعينِنا؛ فالاتكاءُ على عاملي الوفاء والرثاء لم يُجدِ أمسِ ولن يجديَ غداً.
** الوفاةُ لا تعني الوفاء.