العنوان شطر بيت لشاعر الوجدان نزار قباني، من قصيدته:
تعاودُني ذكراك كل عشية
ويورق فكري حين فيك أفكرُ
لقد استوقفتني في البيت الشعري محفزات الفكر والتفكير وأسانيدهما ودعائم الثقافة, وتساءلتُ هل بث الود بمعناه الشائع في الناس من محفزات التفكير السليم,
وهل نعدّه مما يؤصِّل لثقافة وطنية تبعث على الحياة, ثم ما هي محفزات الفكر الأخرى؟.. عندما تتصحّر النفوس, وتجف موارد العاطفة؛ وربما تكون هناك محفزات تتبلور أمامنا للفكر ومورّقاته, ونمتطيها ولكن بوصفها مجردات, وعند ذاك يخفق الفكر, وتنضب الثقافة, لأن تجريد الفكر عن واقع الناس وأد قبل ساعة الميلاد, فهناك محفزات مرشحة لتكون مجسّات للتحكم في مصادر الفكر والثقافة, وهي رؤى جمالية إلى عوالم صغيرة وأخرى أكبر, ونماذج للعقول الزاخرة التي رُكّبت تركيباً مختلفاً من وجهة نظر ثقافة بأكملها عن الكون والحياة.
نأمل أن يكون بناء محفزات التفكير مما يعزز أهداف الثقافة المنشودة للأجيال الحاضرة والقادمة؛ فالافتقار إلى احتضان النموذج المثقف ليسُنّ السنن الحسنة فقد للمحفز والداعم؛ وغموض التصنيف الثقافي ومكوناته الفكرية, وتعدد مرجعياته وهن آخر للفكر الثقافي الصحيح, وضحالة المنتج لقصور الوعي عن الأهمية والحاجة خسارة مدوية, والأخبار الخجولة عن المثقفين ونبضهم, وأنديتهم وجمعياتهم واجتماعاتهم وما يقولون ويفعلون؛ شروع في دفن الفكر وخواء داره؛ ثم نأتي للخطاب الثقافي اليوم في كثير من مفاصل القول, وصياغات الطرح عندما يتحدث المتحدثون ولا نعلم هل يتحدثون في أيامنا هذه أم في أيامهم تلك؟!.. والحاضرون بين فريقين؛ من يلاحق أنفاسه, ويكاد يحبسها عندما يقسو المتحدث في انتقاده لجيل الناشئة أمامه؛ وفريق كأن على رؤوسهم الطير يحلمون بالنهاية لصالح (غزيّة) التي ربما تكون قد غوت!!
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
غويتُ وإن ترشد (غزيّة) أرشدُ
هل نتوقف ونستطيع أن نفصل بين قيمة التراث والثقافات الماضية, وما يتطلّبه الحضور الثقافي اليوم من قيمة جديدة؟!.. وهل رأينا في جيل اليوم من يقرأ العدد من الكتب دون أن يملّ وتصيبه وعثاء القراءة؟!.. وهل أغمدت الجن معازفها في وادي عبقر لأنه ليس هناك ملهم ومحفز؟!
وهل ضلّت الثقافة طريقها إلى الفكر القويم بسبب تمنع اللغة على جيل العجمة..
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى..
لعاب الأفاعي في مسيل فُرات..
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة..
مشكَّلة الألوان مختلفات..
ولنتأمل الإيجابيات ونبحث عمن يكفل لنا وفرة ثقافية محفزة للتفكر الإبداعي الملهم لدى أجيالنا اليوم، وذلك باستجلاب تصور حديث من ملاحمنا الثقافية عبر العصور المختلفة، وقد سبق لي الحديث في ذات الزاوية في مقال بعنوان (خير جليس في الزمان كتاب) عن أهمية تعصير التراث الثقافي المكتوب ليكون قناة داعمة لتطوير ثقافة النشء، ولا بد للقائمين على غراس الثقافة والداعمين للتفكير المساند لها أن يستعينوا بذوي العقول والأفهام ليصنعوا ثقافة مختلفة, ويلبسوها أبعاد واقع اليوم, وقبل ذلك ينبغي وحتماً أن نعيد النظر في المحصول الذي يتوافر لثقافة اليوم ومصادره؛ وهل هي جداول نقية صافية؛ ثم ما هي علاقتها بالنمو العقلي والوجداني ونشر ثقافة الخلق القويم, وإشاعة المحبة, وزرع مساحات خضراء تورق فيها النفوس وتندفع للبذل والإيثار؟ ثم هل أن تلك الثقافات مشدودة القوى لتستطيع أن تتواشج مع الأوعية الثقافية التي تنمي الذائقة عند جيل اليوم, وتضخ فيهم دماء الحياة,؟.. أجزم أن الزمن والضرورة والحاجة تلزم أن تكون هناك مراكز ثقافية, ولعلها حين إقرارها أن تندمج مع الأندية الأدبية, كما أن الضرورة أيضاً ترقُب مسارح عامة ومسارح مدرسية, وصالات للفنون التشكيلية ومؤتمرات ومنابر, ثم إن أندية القراءة ومراكزها تنادي وزارات بناء العقول لتقول كلمتها في أهمية القراءة كمحفز أولي للتفكير, وتنمية الشغف القرائي لدى جيل اليوم, وتشجيع القراءة الناقدة الإبداعية, وحتى نستعيد عقول الناشئة يلزمنا وقفة عند المقرر التدريسي فلا بدّ أن يكون في مسنده ثقافات إثرائية تزيل التصحّر, وتبرز الواقع في صور مضيئة, وتقفز بالعقل الوطني إلى منصات التتويج, حصافة وحواراً وتجلياً ذا قيمة في كل المحافل والمواقع.
ومن هنا.. من مكونات الثقافة تتكون محفزات التفكير النقي الوارف لتكون ممارسة تلقائية تؤسس لبناء الرأي؛ وتوقد الذهن, وتكون حاضنة لكل مقومات الفكر الناضج.
ونؤكد أن هناك تكاملاً بين غزارة مصادر الثقافة, وبين محفزات الفكر, وأنهما الضرورة التي ينطلق منها بناء المجتمعات بناءً وجدانياً تشرق في أروقته الحياة, فالثقافة وإن كانت مكتسبات فردية فهي دعائم مجتمعية لتحفيز الفكر الإنساني ليكون مورقا إيجابياً وذخائر مفضلة بدرجة عالية في مراحل الزمن المختلفة, فإذا ما صفت موارد الثقافة, وأُحسن إليها ممن يقود مكوناتها فإنها ستكون -بإذن الله- كفاءة محفزة للفكر, ومصفوفة توضيح عليا للوعي المجتمعي بقيمة الحياة وعمارة الكون التي وجّه إليها رب العباد: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}.