لما خرج محمد الثاني عشر آخر ملوك الأندلس– بعد أن أضاعها بتناحره مع المسلمين حتى قَوِيَت شوكة النصارى – ذرف الدموع عليها، ذلك أنه قد انتهى من تسليم غرناطة للملكة إيزابيلا والملك فرديناند، وكان هذا آخر عهد الإسلام بالأندلس، فخرج هو وأهله وماله، فينظر للخلف إلى غرناطة الفقيدة .. ويبكي، ولما رأت أمه دموعه قالت له تلك العبارة الخالدة: ابكِ مثل النساء مُلكاَ مُضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال.
لا أظن البكاء أزال حزن محمد الثاني عشر على مُلكِه، لكن ربما خفف قليلاً، فالدموع ليست مجرد ماءٍ يشير إلى الحزن بل لها دور أكبر من ذلك، وهي من نعم الله علينا، فالدموع من مهامها ترطيب العين وحمايتها من الجفاف و أضراره، وكذلك تعقيم العين، فمِن المكونات الهامة في الدمعة مادة اسمها «لايسوزيم»، وهي مادة تثبط نمو البكتيريا في العين، وإذا زادت كمية الدموع نزل جزء منها إلى قناة الأنف وهذا أيضاً يرطب الأنف ويعقمه من الداخل.
والدموع أنواع، فالدموع الناتجة عن المشاعر لها تركيب كيميائي يختلف عن التي تُفرزها العين قسراً مثل دموع قطع البصل، واللطيف أن دموع الحزن تحوي مركبات لا توجد في الدموع الجبرية، منها مادة تسكِّن الألم، وهذا يجعل الناس يشعرون ببعض الراحة بعد البكاء، لذلك فإن البكاء متنفَّس للمشاعر ويستحسن أن يُترَك الإنسان يبكي بعد المشاعر القوية، ومن الخطأ محاولة إجبار الطفل أو حتى الكبار أن يتوقفوا عن البكاء إذا كان الدافع مشاعر قوية، وإحدى التجارب أظهرت أن هذا له أثر ضار على الإنسان، وذلك بأن يجعل البكاء مُضراً نفسياً، ففي التجربة التي شملت آلاف الناس ظهر أن هناك نوعين من البكاء، نوع جيد ونوع سيئ، فأما الجيد فهو أن يبكي الشخص بحرية، أما السيئ فهو أن يكون الشخص ممن نشأ على أن البكاء شيئٌ مخز ومعيب، فهؤلاء لما بكوا لم يكن لبكائهم أثر في تخفيف حزنهم، بل العكس حصل، وهو أن البكاء زادهم حزناً وبؤساً.
والبكاء كما هو معروف ليس بسبب الحزن فقط بل حتى الفرح القوي يمكن أن يُبكي، كما قال الشاعر:
هجم السرور عليّ حتى إنه... من فرط ما قد سرّني أبكاني
و من مشاهد بكاء الفرح لما زار رسول الله عليه الصلاة والسلام أبا بكر وأخبره أن الله قد أذن للرسول بالهجرة إلى المدينة، فسأله أبو بكر إذا كان يمكنه أن يصاحب الرسول في الهجرة وردَّ عليه الرسول بالإيجاب، فبكى أبو بكر رضي الله عنه من الفرح، ولم يكن هذا معروفاً عند العرب، وتعبّر أم المؤمنين عائشة عن ذلك – وهي التي قصّت علينا تلك القصة – فتقول رضي الله عنها: «فوالله ما شعرت قطّ قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذٍ يبكي».
إن المشاعر من أهم العناصر النفسية والعقلية البشرية، والبكاء – سواءً بسبب الفرح أو الحزن – من أبرزها كلها.