النمو الاقتصادي العالمي هو الحَكَم الإستراتيجي الفاصل في أسعار البترول وكميات الإنتاج. وما قوة الدولار والمضاربات والأحداث السياسية الطارئة، إلا مؤثرات تُذَبذِب أسعار النفط لفترات قصيرة (والعام والعامان فترة قصيرة)، وإن كانت المضاربة أو الحدث السياسي تكون عادة هي السبب في تفجير دورة الأسعار صعوداً أو هبوطاً. ولكن الأحداث السياسية الطارئة والمضاربات في حد ذاتها، لا تؤثر كثيراً في الإنتاج البترولي العالمي ولا في النمو العالمي، اللهم إلا إن أصبحت دائمة الأثر، ولكنه يظل لا مبرر له من ناحية الحاجة الاستهلاكية. ككون اتخاذ الطاقة في العشر سنوات الماضية كوسائل تحوط وسلع مضاربية أساسية. فهذا قد سبب ارتفاعاً دائماً في أسعارها، إلا أن أثره مرة واحدة وقد ذهب.
فالنظرية العلمية المنطقية الاقتصادية عموماً، تتنبأ بأن أسعار البترول المنخفضة اليوم، ستظل منخفضة لفترة زمنية. والواقع التاريخي الاقتصادي التطبيقي يتنبأ بأن هذه المدة، ستكون في حدود العشرين عاماً القادمة. وهذا على افتراض عدم تغير معطيات أساسية خلال هذه الفترة.
والمنطق العلمي الاقتصادي يعتمد على منطقين اثنين، أساسي وثانوي.
فالأساسي، هو أن أسعار النفط تساهم في النمو الاقتصادي العالمي، وفي نفس الوقت فالنمو الاقتصادي سبب رئيسي في أسعار البترول. فالطاقة شريان النمو، ولذا فانخفاض أسعار النفط تُخفض الكلفة الإنتاجية العامة مما يحفز النمو الاقتصادي، لانخفاض كلفة الإنتاج. وفي نفس الوقت، فالنمو الاقتصادي يرفع الطلب على النفط مما يحفز ارتفاع أسعار النفط.
والمنطق الثانوي، هو أن ارتفاع أسعار النفط يُحفز تطوير وسائل إنتاج النفط. فأيام النفط الذهبية هي دورات زمنية يزدهر فيها النفط جميعه، أسعاره واكتشافاته وتطوير إنتاجه.
ونتيجة المنطق العلمي (المبني على التأثير الُمتبادل بين السبب والنتيجة)، تُخبرنا بأن النمو العالمي وأسعار النفط يتبادلان مراكز الازدهار الزمنية، فيصعد هذا ويهبط ذاك.
وقد صَدّق الواقع التاريخي الاقتصادي التطبيقي هذه النتيجة. بل وأثبت التاريخ الاقتصادي التطبيقي، بأن هذه الدورات غير متساوية زمنياً، تناسقاً مع منطق النسبة والتناسب. فالنمو الاقتصادي، سبب رئيسي في أسعار النفط، وأسعار النفط لها أثر جزئي على النمو.
فمن تأمل التجربة التاريخية الاقتصادية -التي تحكي استجابة المجتمعات الاقتصادية للثورات العلمية الاقتصادية والإنتاجية- فإن مجموع مراحل الدورة لطفرة كاملة -تقريبا- تمتد من ثلاثين إلى أربعين سنة. عشر للنفط، وعشرون للنمو العالمي، مع فترات متوسطة تمثل سنوات الترادف التبادلي في المراكز بين النمو وأسعار البترول، في صعود أحدها وانحدار الآخر.
ويجب أن يُفهم، أن هناك فجوات زمنية تفصل بين السبب وظهور النتيجة وتداخل بينهما. فظهور الأثر لا يبدأ إلا مع بداية زوال المؤثر. وهذا طبيعي جداً في حركة اقتصاد العالم. وشرحه في البترول سهل وواضح.
فتمام النمو الاقتصادي، يعني ابتداء انحدار هذا النمو. ولكن ثمرة النمو الاستهلاكية للنفط تستمر زمنا بعده فترتفع أسعاره المحبوسة بصدمة ما، مضاربية أو سياسية، تستمر لعشر سنين بعد توقف النمو.
وارتفاع الأسعار يدفع بعجلة تطوير التوسع في الإنتاج البترولي وكلفته، فيزيد العرض النفطي حتى تأتي صدمة تكشف عن اتساع حجمه الإنتاجي، فتنهار أسعاره، معلنة بداية مرحلة نمو جديدة لعشرين عاما.
واليوم، ومع عودة النمو العالمي، ها نحن نشاهد انخفاض أسعار النفط بعد عشر سنوات نفطية ذهبية.
ويُستحسن أن أبدأ طرحي، بأن أوضح أن النفط لا يُشكل إلا ثلث موارد الطاقة المستخدمة اليوم. وأن تسعين بالمائة من النفط تُستهلك في نقل البضائع والركاب، أي المواصلات.
وقد ظهرت أهمية البترول بعد الحظر البترولي العربي عام 1973م. وما كان الحظر إلا الصدمة التي فجرت حتمية ارتفاع أسعار النفط المحبوسة بعد النمو العالمي الذي اقترن بطفرة صناعة السيارات في الستينات والخمسينات. طفرة صناعة السيارات التي دعمها أسعار النفط الرخصية. فسطع نجم النفط، وخبا نجم الفحم رغم قيام الصناعات والقطارات عليه.
وبما أن أمريكا هي التي توجه وتقود الحضارة والنمو الاقتصادي الصناعي المعاصر لأكثر من قرن، فقد كانت طفرة صناعة السيارات والطرق السريعة في حقيقتها، ثورة ثقافية عالمية، حققت رفاهية الاستقلالية الحياتية الفردية، وغيرت وجه المدن والمجتمعات، وأدت إلى مقتل طفرة صناعة القطارات، كما أدت إلى تتويج النفط كسلعة الطاقة الإستراتيجية.
فكلفة وقود نقل البضائع بالشاحنات هي من كلفة الإنتاج وهي تستهلك ربع الإنتاج النفطي. وكلفة تنقل الناس الذين هم العمالة الإنتاجية والاستهلاكية، تستهلك نصف الإنتاج النفطي، وعُشر تستهلكه الطائرات.
وبالرغم من تخصص استهلاك النفط في المواصلات، وكونه يشكل فقط ثلث الطاقة المستهلكة عالمياً، إلا إن أي تغير في أسعار النفط يؤثر بقوة على أسعار الطاقة، ولا عكس. والسبب أن النفط والغاز والفحم، كلحم الغنم والبقر والإبل. فاللحم المشهور في ثقافة المجتمع هو الأسهل والألذ والأكثر قابلية ليكون بديلاً عن غيره في الطبخات. فهو يقود أسعار اللحوم الأخرى، فلا يلجأ الناس عندنا مثلاً للحم الإبل إلا في حالات التقشف. ولهذا يقود النفط سوق الطاقة.
فالنفط يُمكن أن يُستخدم في غالب مستهلكات الطاقة الصناعية والكهربائية والحرارية، ولا عكس. خاصة ما بُني وصُنع من مُحركات قبل عام 2000م. لكونها بُنيت على قابلية التحول من الغاز والفحم إلى النفط. وذلك قبل أن يصبح إنتاج الغاز واحتياطياته عظيماً، فذهب داعي التحوط من نفاذ الغاز، فلم تعد تُبنى المحركات الجديدة إلا لتعمل على الغاز. وأما محركات السيارات والشاحنات التي تستهلك غالب النفط المُنتج عالمياً، فلا تُستبدل بغير النفط، إلى الآن. (ولو حصل فيحتاج إلى التحول زمن طويل، ولكلفة تأسيسية عالية).
ولعموم ما سبق، ومن التجربة التاريخية والمنطق العلمي، فالسيناريو القادم الذي أعتقده هو ثبات الأسعار الاسمية أولاً (أي انخفاض قيمة النفط في قوته الشرائية) ثم ثبات الأسعار الحقيقية بعد ذلك، والله أعلم، على النحو التالي: فالخمس سنوات الأولى القادمة ستكون إخراجاً للنفط الصخري ونحوه من سوق النفط، مع اشتداد زخم النمو العالمي. وفيها يتحقق ثبات الأسعار الاسمية الحالية، أي انخفاض لقيمة النفط الحقيقية.
ويتبع الخمس بعد ذلك، عشر سنوات أخرى من ثبوت الأسعار الحقيقية على أسعار اليوم، أي قد يزداد فيها سعر النفط ليصل لمائة دولار، ولكنها بقيمة خمسين دولار بالقوة الشرائية اليوم. وذلك بسبب العودة التدريجية للنفط الصخري ونحوه من البدائل التقليدية. فيكون النفط الصخري عبارة عن زيادة عرض تمنع من ارتفاع الأسعار الحقيقية للنفط، مُشكلاً بذلك سقفاً سعرياً حقيقياً لسوق النفط، خاصة مع التطور في تكنولوجيا الإنتاج الذي سترافق عودته.
ويتبع العشر سنين خمس يتباطأ فيها النمو الاقتصادي، هي بداية انحداره. ولكن لا أعتقد أن يحدث بعد ذلك دورة العشر سنين -المُفترضة من التجربة الاقتصادية التاريخية- لطفرة ثالثة لأسعار النفط، بل ثبوت نوعي لأسعار النفط الحقيقية، التي كانت عليها قبل أشهر معدودة. وتوقعي هذا يظل قائما طالما أنه ليس في الأفق ما يدل على طفرة نمو قوية في البلدان المتقدمة، والتي لن تتحقق بغير اختراع جديد. فالمتوقع حتى اليوم هو عودة النمو القوي الصيني والهندي فقط، ونمو اعتيادي للدول المتطورة.
ولهذا أعتقد، أن أسعار النفط بعد طفرة النمو القادمة لن تدخل في دورتها الذهبية، بل ستكون مستقرة لفترات أطول. فركوب الصيني والهندي لسيارته الخاصة كفيل بالحفاظ على استقرار النفط على سعر المائة دولار بالقوة الشرائية الحالية، أي قد يكون مائتين دولار بعد عشرين عاماً، ولكنها بقيمة مائة دولار اليوم. (وتبرير توقعي بثبات أسعار النفط بعد دورة النمو القادمة يطول طرحه هنا. كما أنه ليس هو بتوقع قوي، كون قوة احتمالية ظهور اختراع جديد يتسبب بطفرة نمو في البلاد المتطورة، تطير بأسعار النفط لطفرة ثالثة).
ويكفي هنا لأختم، إلا أنه بقى توضيح أمرين، يحتاج كل منهما لمقال منفرد. الأول معرفة موقف السياسة السعودية والأمريكية والعالمية من القرار السعودي النفطي الحالي.
والثاني، معرفة كيفية التصرف الإنفاقي الحكومي السعودي مع انخفاض عوائد النفط. وسأطرح حلاً بسيطاً مسكوتاً عنه ومقدوراً عليه، يمكننا به حتى زيادة الإنفاق عن المستوى الحالي، ودون أن نمس الاحتياطيات الأجنبية.