الطاقة هي روح العالم الحديث، فهي تدخل في كل ذرة منه. فالحديث عن أسعارها وتوقعاتها، ليس من الأحاديث السطحية تقنياً. كما أنه ليس من الأحاديث التي يُعتمد فيها على النقل والترديد لأحاديث هنا وهناك، مهما ارتفعت درجة مصداقية المصدر. فالمصداقية التي تتمتع بها بعض المصادر الاقتصادية، هي استثمار للمصدر يستخدمه كسلاح مؤثر في تغيير المسارات، لتحقيق مصالحه الاقتصادية العليا. ولهذا ينبغي على المُتأمل في سياسات الطاقة، اعتماد التحليل المنطقي لكل ما يطرح من معلومات تقنية وشروحات اقتصادية. فهناك أطروحات سطحية، وهناك أطروحات علمية منطقية ظاهرياً لا تكذب ولكنها بذكاء تحرف فهم الواقع، أو تهون جانباً أو تخفيه بينما تعظم جانباً آخر.
ومن أهم أسباب الخلط في تحليل سياسية السعودية في الإنتاج النفطي، غلبة هيمنة المحللين الماليين على السوق الإعلامية الغربية، فهو ما يطلبه المشاهد. والمحلل المالي إما سطحي التأمل وإما ناقل لغيره، والإعلام الاقتصادي الغربي هو المهمين على الإعلام العالمي، وبالتالي على الإعلام المحلي.
فهناك فرق بين طريقة فكر المحلل المالي وفكر المحلل الاقتصادي. ففكر الخبير المالي قصير الأجل محدود الدائرة، يغفل عن معطيات تندمج في المعادلة الفكرية خلال الزمن، فهدفه تحقيق الأرباح العاجلة. وبالتالي هو صانع الثقافة الاقتصادية العامة ولهذا تكثر تكهناتهم وأخطاؤهم كما يكثر تعدادهم. وفي الأزمات المالية والاقتصادية شواهد كافية على ذلك. وأما فكر الخبير الاقتصادي فهو فكر استراتيجي بعيد الأجل واسع الدائرة، تشمل معطيات كثيرة تندمج في معادلته الفكرية خلال الزمن. ولهذا هم قلة نادرة، يصعب فهمهم، فلا أثر لهم في صناعة الثقافة الاقتصادية العامة. وكذلك هو الأمر في التكهنات والتحليلات حول سياسة المملكة النفطية في الفترة الأخيرة، فلا تكاد تسمع تحليلاً شاملاً عميقاً.
فعندما ارتفعت أسعار البترول قبل سنوات، زادت المملكة من إنتاجيتها للحد الأقصى بدعوى موازنة السوق للحفاظ على الاقتصاد العالمي. وكذلك فعلت عندما انخفضت أسعار البترول، بدعوى حرية السوق وعدم التدخل فيها. ففي كلتا الحالين، حال ارتفاع الأسعار وانخفاضها، اتجهت سياسة المملكة النفطية لتخفيض الأسعار. وأما الدوافع الحقيقية في كلتا الحالتين فهي تحقيق أكبر أرباح ممكنة من الثروة النفطية الوطنية، وهذا حق إنساني فطري وحق دولي واجب على الدول، لا يجادل فيه أحد.
وأما التصريحات الرسمية السياسية والاقتصادية، فهي البرتوكولات السياسية والاقتصادية التي اتفقت عليها المجتمعات الإنسانية الدولية ولا تقبل غيرها، والمطالبة بغير ذلك هي مطالبة غير معقولة . فتصريحات الجهات الرسمية لها اعتبارات وبرتوكولات، والمُطالب بشرح السياسات الرسمية للشارع هم الأفراد من أهل الاختصاص الذين لا يمثلون الجهات الرسمية. ولهذا أستغرب عدم المشاركة الفردية إعلامياً من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن.
فعندما ارتفعت أسعار البترول قبل أعوام حتى وصلت إلى 150 دولاراً للبرميل أنتجت المملكة بكامل طاقتها، فكثر الخلط والخرط والاتهامات آنذاك، والحقيقة أنها كانت سياسة استجابية للسنّة الإلهية الكونية لعمل السوق ، كما أنها كانت محققة لأهداف قصيرة الأجل وبعيدة الأجل.
فعندما وصل البترول إلى 150 دولاراً بسبب - اتخاذه كأداة تحوط مالي وتزايد المضاربات فيه - كان عدم زيادة الإنتاج السعودي النفطي، يعني تحقيق الأرباح للدول النفطية الأخرى، وضياع فرصة الربح من الفقاعة السعرية. وباغتنام السعودية تلك الفرصة السعرية الفقاعية، في عام 2008 حققت السعودية ثلاثة أهداف:
1 - أولاً: أعلى دخل بترولي في تاريخها.
2 - ثانياً: هذا الدخل العالي هو الذي يساهم اليوم في تحقيق استراتيجياتها النفطية الحالية الذي تمكنها من الصبر على انخفاض الأسعار.
3 - ثالثاً: زيادة الإنتاج آنذاك، ساهم في تأخير انخفاض الأسعار الحاصل اليوم، كما سيأتي شرحه في المقالات اللاحقة.
وبعد هذا الشاهد على سياسة السعودية النفطية الإيجابية، في الأعوام الأخيرة، وما تقدمه من تمهيد للخلفيات التي تؤثر على تصور الوضع الحالي، نأتي للسؤال عن سياسة المملكة النفطية الإنتاجية اليوم. فهي سياسة ذو كلفة عالية، فهل هذه الكلفة خسارة أم استثمار، وهل هي اختيارية أم حتمية. ولذا فالجواب على هذا السؤال من شقين رئيسيين: الأول هل هناك من خيار آخر أمام السياسة النفطية السعودية؟ والثاني: على افتراض وجود خيار آخر وتفضيل هذا الخيار عنه فهل ستكون كلفته كلفة استثمارية من أجل تحقيق أرباح مستقبلية كبيرة، أم أنها مجرد مغامرة خاسرة؟. هذا ما سأطرحه في المقالات القادمة.