بكتْ عَينيَ اليسرى فلما زجرتُها
عن الجهل بعد الحلم أسبلَتا معَا
ارتجفتْ اليد, وخفق القلب, وسكبت العين دمعها, قبل صلاة ظهر يوم الخميس الموافق 3-3-1436هـ, حين قال لي أخي ياسر بن سعد الحصين عبر مكالمة وأنا على ظهر طائرة متجهة لحائل: الوالد يطلبك الحل!
حضر أجله فحضرتْ همومي وأحزاني, وفي القلوب تحفر القبور التي لا تنسى.
انعقد اللسان، وشُلّ التفكير, هل صحيح أن شيخي ووالدي وصديقي توفي؟! نعم توفي, وكيف لك أن تسأل هذا السؤال؟ وهو منذ أشهر معدودة وهو يقول لك: إني مودعك قريباً! ألا تذكر حين اتصلتَ به في شهر الله المحرم هذه السنة (1436) فقلتَ له: بإذن الله إني سآتي مكة في أول صفر, وسأزوركم, فقال لك: إن جئتَ ولم تجدني فسامحني!!
ألا تذكر خطابه الذي وجهه إليك صبح الخميس الموافق 26-2-1436هـ قبل وفاته بأسبوع بأنه سيلحق بأبي عبد المجيد عبد الرحمن العبد الكريم وابن خالته إبراهيم العبدالكريم اللذين ماتا قبله بأيام والذي جاء فيه (أقول: ماداما لقيا الله وهما أحرص مني على حياة، فإليك بعض المُلَحْ قبل أن ألحق بهما).
لا إله إلا الله ما ألطفه من عالم, وأعزَّه من شيخ, يواسي أحبابه قبل أن يفجعهم خبره.
كان شيخنا رحمه الله وأعلى نُزُله مستعداً للموت منذ سنوات, فمذ صحبته قبل أكثر من عشر سنوات, وهو يقول: (أنا مستعد للموت ولله الحمد)!
يحدثك عن الموت وعن استعداده له، كأنه يتحدث عن صاحب له ينتظره, وهاهو قد مات بعد عمر 83 سنة أحسب شيخنا ممن جمع الله له ما تفرق في غيره من كونه: الشاب الذي نشأ في عبادة الله, والرجل الذي قلبه معلق في المساجد, والرجل الذي تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.
قال لي: من فضل الله علي أني لا أذكر أبداً أني ارتكبتُ كبيرة من كبائر الذنوب في حياتي كلها, وليس هذا والله بحولي وقوتي, لكن لطف الله بعبده الضعيف.
جاء في سيرة مسافر سعودي الذي ألفه ص27 (عندما أتذكر غربتي مع ضعفي ونقصي وقلة حيلتي, وحفظ الله لي من الضياع والضلال, ومن كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم, أتذكر دعاء والدتي رحمها الله قبل وبعد وأثناء غربتي في الداخل والخارج, وكان والدي رحمه الله لايكتفي بالدعاء النبوي: «أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك», بل كان يردد كأني أسمعه الآن {فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (64) سورة يوسف, ولازلتُ بفضل الله ثم بفضل دعائهما أجد حسن العاقبة في كل أمر أختاره لنفسي أو يُفرض علي).
قال رحمه الله: (لي أكثر من أربعين سنة ما فاتتني سنة الضحى)! قالها لما ركب سيارة الإسعاف يوم الأحد قبل وفاته بأيام خشية أن يفوته الوقت الذي اعتاد أن يصليها فيه.
حدثني غفر الله له عن نفسه وعن أخيه قائلا: (قبل خمس وثلاثين سنة تعوَّدنا على تخصيص الوقت بين المغرب والعشاء لنزور أو يزورنا بعض الأصدقاء, فخرجنا من المسجد آخر مرة للزيارة, فأوقفني الأخ صالح رحمه الله, وقال: ما رأيك؟ هؤلاء الإخوة لا همَّ لهم هداهم الله إلا رسم الحياة بالحبر الشيني (أي الأسود), وسنضيع نعمة الله بالفراغ بين الصلاتين فيما يضرّ ولا ينفع والله يقول: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (7-8) سورة الشرح, فاستجبتُ لنصيحة أخي رحمه الله فعدنا إلى المسجد!
قال الشيخ سعد رحمه الله: وكان من منن الله عليَّ المواظبة على انتظار الصلاة بعد الصلاة بين العشائين في السعودية والأردن ولبنان إلى هذا اليوم, ولعلي ألقى الله قبل أن أعجز عن ذلك).
واستمر على الرباط من ذلك الزمان إلى يوم السبت الموافق 28-2-1436هـ أي قبل وفاته بخمسة أيام، فرضي الله عنه.
في أوائل شهر محرم هذه السنة لحقه تعب شديد بسبب الرئة ولابد من استعمال جهاز الأكسجين فكان ممتنعاً من استعماله حتى عجز عن الذهاب للمسجد, فأراد حلاً ليتمكن من الذهاب للمسجد, فأقنعه ابنه والأطباء بوضعه, فلما فعل ذلك تحسن حاله قليلاً, فكان يذهب بجهاز الأكسجين للمسجد! للمرابطة فيه بين العشاءين.
أرسل لي خطاباً يوم الأحد الموافق 15-1-1436هـ جاء فيه: (كنتُ وعدت والدتي رحمها الله بعدم استعمال الأجهزة الصناعية للتنفس والأكسجين، وماتت على ذلك، وقد رفضتُ استعمالها حتى عجَزْتُ عن الصلاة في المسجد, وفقدت الشهية للأكل فنزل وزني من 60 إلى 48 وأقنعني الأطباء باستعمال جهاز الأكسجين 24 ساعة، فزال بعض العجز بوجودها - فضلاً من الله- وعُدْت إلى المسجد بين العشاءين، وعادت الشهية للأكل بعد يومين أو ثلاثة -نعمة من الله ومنّة- وعُدْت إلى تهذيب الجلالين في المسجد, وابن كثير في البيت).
عجيب أمره، غريب شأنه, ينفق من ماله وما أمده الله به في وجوه الخير حتى تكاد ألا تصدق خبره! لا يدخر مالاً, ولا يرد سائلاً, ولا يستكثر عطاءً, ومع علاقتنا الحميمة لا أعرف إلا النزر اليسير عنه في هذا الباب, فمما أعلمه ما يلي:
1- كان يجري لحارس المسجد راتباً شهرياً يدفعه له كاملا أول السنة زيادة على ما يقبضه العامل من وزارة الشؤون الإسلامية.
2- اشترى أكثر من سيارة لبعض الأسر المحتاجة, وساعد بعضهم في شرائها.
3- سدد فواتير وأجرة بيوت لا يقوى أهلها على سدادها.
4- لما وقعت الكارثة على أهل الشام (سوريا)كان الله لأهل السنة, اشترى الشيخ رحمه الله مخبزاً في البوكمال بقيمة مائة ألف ريال ليوزع على أربعة آلاف عائلة نازحة من سوريا يستفيد منه المحتاجون يومياً, وقبلها جهّز للاجئين الفُرُش والبطانيات في الأردن وتركيا بمبلغ ستمائة ألف ريال وما يحتاجونه لاتقاء برد الشتاء, وفي لبنان دفع خمسين ألف ريال للأكل والسكن, ومع هذا لم ينس الدعوة إلى الله فطبع من كتابه النافع المفيد المختصر (ألا لله الدين الخالص) أكثر من مائة وخمسين ألف تم توزيعها على اللاجئين.
5- بنى كثيراً من المساجد في الشام وغيرها من البلدان.
6- أقرض أموالاً كثيرة, وكان لا ينتظر من المقترض السداد, وقال لي: حين أُقْرِض لا انتظر رجوع المال, والعوض من الله.
7- ساعد أرامل وأيتاماً ومساكين لا يحصيهم إلا الله في داخل المملكة وخارجها.
8- بنى معاهد تعليم، وساهم في إنشاء مراكز إسلامية في العالم، وقد وقفتُ على بعضها, وقد قال لي بعضهم وهو يشير إلى مبنى قائم: أرضه قد اشتراها الشيخ سعد الحصين جزاه الله خيراً وجعلها للمعهد.
9- كان يطعم الطعام خاصة في رمضان، ويقيم مائدة مشهودة حين كان في الأردن, يشهدها على الأقل ثلاثين صائماً, وكان هو الذي يتولى خدمتهم.
10- كتبه كلها ليس لها حقوق طبع ولا حفظ بل هي بالمجان وعلى موقعه منشورة, وكان يطبع كتبه على نفقته، ويوزعها، ولو أراد من خلفها مالاً لحصّل الكثير.
11- تكفل بعلاج بعض المرضى، وبعضهم اشترى له ما يحتاجه أو سعى إلى ذلك بشفاعته، خذ هذا المثال الرائع من سيرته حدثني عن: آلاء، فقال: هي طفلة من قرية الخِضْر بالضّفّة الغربية لنهر الأردن من فلسطين، وعندما كانت في سنّ الخامسة وفي طريقها لمدرسة الأطفال مع زميلة لها وَطِئَتْها خلاّطة إسمنت متنقّلة فماتت زميلتها, أمّا آلاء فعاشت بعد أن قُطِعَ نصفها الأسفل من تحت السّرة, ولأنّ الله حَبَاها وجهاً ضاحكاً لم تغيّره المصيبة, تسابقت إليها بعض وسائل الإعلام الإسرائيليّة والأمريكيّة, ومنها عَلِمْتُ بخبرها- الكلام للشيخ رحمه الله- فاتّصلت بوالدها وعرفت منه بقيّة الخبر، فعرضت عليهم الإعانة فطلب كرسيّاً كهربائيّاً متحرّكاً تذهب فيه للمدرسة فكتبت للأمير عبد العزيز بن فهد بن عبد العزيز آل سعود فبادر بتحويل ثمن الكرسيّ تبرّعاً من والده خادم الحرمين الملك فهد رحمه الله، فسبقتنا لهذا الخَيْر امرأة إسرائيليّة فطلب والدها أن يصرف التّبرّع لإعداد مغتسل آلي للاستحمام، ولما بلغت (15) سنة وتخرجت من المرحلة المتوسّطة بامتياز طلب والدها الإعانة لصنع ماعون بلاستيكي جديد لاحتواء بقية جسمها فطلبْتُ من شركة الجميح التّبرّع لها بمبلغ خمسة آلاف دولار ـ فيما أتذكّر ـ فوافقت الشركة على ذلك. جزى الله الجميع خير الجزاء، وكنْتُ على اتّصال بالعائلة حتى بلغْتُ الثمانين وضاق وقتي عن ذلك، وكانت حياتها آية من آيات الله: نجاتها من الموت وصَبْرها ومثابرتها على الدّراسة ووجهها المبتسم للمصيبة، ولعلّ الله أن يكمل فضله بها وعليها فيجعلها داعية إلى إفراد الله بالعبادة ونفيها عمن سواه وإلى اتّباع السّنّة ومحاربة البدعة، وفهمتُ من أهلها أنّ إسرائيل تصرف لها راتباً قدره ألفا ريال شهريا ـ فيما أتذكّر، وعند بلوغها (18) من العمر تصرف لها تعويضاً بنحو مليون ريال تقريباً، بارك الله لها ولأهلها. كتب الشيخ لها خطاباً نصه: (من سعد الحصين إلى: الأخت العزيزة في دين الله/ آلاء محمود غنيم حمّدها الله العاقبة في كلّ أمر وغنّمها السلامة في الدّنيا والآخرة.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أمّا بعد: فإنّي أشكر الله على وجودك في الزّمان الذي أعيش فيه، والمكان الذي أقيم فيه، في أرض البركة والقداسة: أرض الحرمين وأرض المسجد الأقصى. فلا تزال صورتك في عيني، وصوتك في سمعي، ورضاك بقسمة الله في قلبي، وأدعو الله لك بالمزيد من الرضى والطمأنينة والسّكينة والسّعادة في الدّارين. القدر حقّ من أمر الله:
«ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك»، ولكن الأخذ بالأسباب الشرعية من القدر.
قدّر الله علينا نصيبنا من الصحّة والمرض والغنى والفقر. (نفرّ من قدر الله إلى قدر الله). ليس لأيّ منّا يدٌ في دفع أقدار الله وابتلائه بالخير والشّر، ولكن الفَرْق في كيفية مقابلتنا لهذه الأقدار: (من رضي فله الرضى, ومن سخط فله السّخط).
والفَرْق الأعظم، في الحال التي نلقى الله عليها، لا من حيث الصّحة والثقافة والمال والجاه، ولكن من حيث طاعتنا لله فيما خلقنا له: إفراده بالعبادة، واتّباع سنّة نبيّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بلا إشراك ولا ابتداع. وإليك رسالتين في توحيد الله وعبادته وذكره، وفيهما مع كتابه تعالى أهمُّ وأصحُّ ما في دين الإسلام اليوم. وأنا دائماً ما حييت في انتظار أخبارك الطيبة. رعاك الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).
هل قرأتم مثل هذا اللطف والسماحة والمواساة والمبادرة لنفع طفلة لا تمت له بصلة إلا بصلة الإسلام في هذا العصر؟
أذكر مرة ذهبنا سوية إلى صيدلية بعد زيارتنا لأحد العلماء؛ لأشتري جهاز أكسجين لابنتي فأحضر الصيدلي الجهاز، فأراد الشيخ رحمه الله أن يدفع قيمته, فاعتذرتُ منه وشكرته, فعقد يميناً أن يدفع قيمته! فقلت: قيمة الكفارة أرخص من قيمة الجهاز! فأبى وقال: لا حق لك في حرماني من هدية أهديها لابنة أخي!
من كرمه: أنه إذا ركب مع شخص فأوقف سيارته عند محطة البنزين كان رحمه الله يصر على أن يتولى دفع القيمة.
لا يساوي المال عنده شيئاً بل الدنيا كلها, كان مدبراً عنها, لم أره ملتفتاً إلى شيء منها, كان راكبا معي في السيارة فمررنا ببعض البيوت، فقلت للشيخ عَرَضاً: إن بعض من يسكن هذا الحي رصيده يفوق المائة مليون، فقال رحمه الله: الله يعينهم على الحساب يوم القيامة!
ذكرني بمقولته ما قاله الإمام أحمد رحمه الله لابنه صالح حين ذكر له أن بعضهم قد حصل المنصب وفلان حاز الأموال فقال: (يا بني! الفائز من فاز غداً، ولم يكن لأحد عنده تبعة).
كان لباسه لا تبلغ قيمته ثلاثين ريالاً, وكان من أرضى من رأيته في الدنيا, قال عن نفسه:
(التزمت القصد في المتاع الدّنيوي فلم أشتر سيّارة ولا أثاثاً للزّينة ولم أقْتَنِ جهاز النّداء (بيجر) في زمنه، ولا الجوّال بعده، ولا أكلت وجبة العشاء منذ نصف قرن ولا وجبة الفطور منذ (30) سنة إلا نادراً ولا شربت القهوة ولا المشروبات الغازيّة أبداً، ولا دخَلْتُ على حلاّق ولا خيّاط ولا شربتُ الشّاي منذ (40) سنة، ولا تزوّجت غير واحدة قبل (52) سنة.
قال الشيخ سعد غفر الله له: (لا أذكر أنَّا أخرجنا زكاة المال؛ لأن كل المال الزائد يُخْرج لمستحقه قبل حلول الحول عليه, وقد أخذ علينا أخي صالح ألا ندخر شيئاً فوق الحاجة فكان ذلك, وكان حسابنا مشتركاً؛ لأننا شركاء في القليل والكثير بفضل الله منذ عشرات السنين, ورأينا البركة في المال بسبب الاجتماع عليه مثل الطعام... وقد كتب صالح رحمه الله على نفسه وعلينا النفقة بغير محاسبة ولكن من غير إسراف ولا مخيلة).
حدثني رحمه الله أنه: (قبل خمسين سنة أثناء الدراسة في مصر ذكرتُ لأخي صالح رغبتي في التوقف عن شرب الشاي بحجة أنه لا فائدة تذكر في شربه -ونحن لا نشرب القهوة ولا المشروبات الغازية-, فقال رحمه الله: ما عندنا من التسلية المباحة في مصر غير شرب الشاي! بل لنتوقف عن أكل وجبة العشاء فلستُ أرى من العقل ولا الحاجة الأكل قبل النوم, فتركنا العشاء منذ ذلك التأريخ).
كان لا يتناول إلا وجبة واحدة في اليوم, مرة كان في مطعم فندق فجمع على طاولة الطعام عدداً من الأصناف, فلما مرّ عامل من عمال الفندق لاطفه الشيخ بالكلام, وقال بعد أن دعاه ليتناول معه: لا تعجبْ من عدد الأصناف فهذه وجبتي إلى الغد بإذن الله!
لا أذكر مرة أكلتُ معه إلا ويدعو الخدم الذين يأتون بالأكل أن يشاركونا قائلا: شاركنا يا أخي, فكانوا يتعجبون من لطفه وحسن تعامله ويعتذرون منه، فإذا جئنا مرة أخرى بادروا لخدمة الشيخ رحمه الله مما رأوا من لين جانبه معهم, وعطفه عليهم, والشيخ على عادته يدعوهم للمشاركة في الأكل ويدعو لهم.
كان تعامله مع العمال والخدم شيء يفوق الوصف، إي وربي يفوق الوصف, حتى العمال أنفسهم يتعجبون من فعله معهم, حتى قال لي غير واحد منهم بلسانه الذي لا أكاد أفهمه: هذا بابا كويس مرة, أنا ما فيه شوف نفر ثاني يسوي كذا, أنا في السعودية عشرة سنة ما فيه شوف مثل بابا.
كان يعطيهم كامل الاحترام والتقدير والإجلال والإكبار, ويحاول أن يخفف عنهم الغربة التي يعيشونها, فرحمه الله من إمام قد ذهب.
كان إماماً في حسن التعامل, إماماً في التواضع, إماماً في الزهد, إماماً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, إماماً في نفع الناس والشفاعة لهم, إماما في الكرم والإنفاق والبذل, إماماً في الدعوة إلى الله, إماماً في العبادة, إماماً في التوحيد والسنة, إماماً في الصبر على أقدار الله.
كان يقبل أيدي الأطفال, ويلاطفهم, ويوزع عليهم الحلوى! مرة رأى بنتاً عمرها خمس سنوات تقريباً مع والدها وهي تنظر إلى الشيخ فأخرج الشيخ لها حلوى من جيبه وقال: تفضلي هذا أول المهر! فعَلا والدها الدهشة والحيرة, هل إذا أخذتْ الحلوى تم عقد الزواج؟! فظهر عليه التردد فأشرتُ إليه ألا بأس عليك وعليها فالزواج بيدك, ففطن الشيخ لي وهو الفطين الألمعي رحمه الله, فدفع والد البنت ابنته لأخذ الحلوى فأخذتها, فقال الشيخ رحمه الله: هذا الرضى وقد حصل, وبقية المهر أجيبه بإذن الله!
ومرة أخرى كنا عند أحد المشايخ وأولاده الصغار يلعبون خارج المنزل مع أولاد جيرانهم فدخلوا علينا المجلس, وقد تلوث أيديهم وملابسهم بشكل ملفت للنظر, وقلت في نفسي: لعلهم يجلسون في طرف المجلس بلا مصافحة, فلما رآهم الشيخ رحمه الله رحب بهم فجاءوا إليه فقّبل أيديهم كلهم!! وأعطاهم حلوى!
لا يسمح الشيخ لأحد كائناً من كان أن يقبل رأسه, وإذا كان جالساً فسلَّم عليه أحدهم وذهب ليقبل رأس الشيخ, ولم يتمكن الشيخ من منعه, بادره الشيخ بتقبيل يده!
كان يسارع في حاجات الناس منذ أكثر من أربعين سنة، كتب بيده آلاف الشفاعات, لا يرد أحداً طلب منه شفاعة, كان باذلاً لجاهه, ونفسه، وماله.
رزقه الله منطقاً حسناً, وفكاهة من غير تكلف, فهو صاحب طرفة ومُلحة, لا يمل السامع حديثه, وإذا كتب فهو الكاتب الذي يأسرك حرفه, ويسحرك تسطيره.
كل شيءٍ يملّ منه إذا ما
زاد إلاّ حديثكم لن يملاّ
ويصدق على حلو منطقه رحمه الله قول ابن الرُّومي:
وحديثها السِّحرُ الحلالُ لو أنَّه
لم يجنِ قتلِ المسلمِ المتحرِّزِ
إن طالَ لم يملل وإن هي أوجزت
ودَّ المحدِّث أنَّها لم توجزِ
ومن مُلحه وحسن تعامله: أننا ذهبنا سوية للإفطار في أحد المطاعم، وكان الذي يقوم بالخدمة أحد الإخوة المصريين فكان الشيخ يلاطفه ويقول له: مصر أم الدنيا تعلمتُ من أساتذتها اللغة والأدب والظرافة والطرافة وكنت فيها قبل خمسين سنة عام 1374هـ, والأخ المصري قد انبلجت أساريره مما يسمعه من ثناء الشيخ على بلده، والشيخ مستمر في قوله ثم أراد الشيخ بذكائه وتوفيق الله له ألا يفوت الفرصة في الدعوة إلى الله وبيان الخطأ حتى في مثل هذا الموقف فكان مما قاله: مصر أم الدنيا فمنها الأطباء والعلماء... وكذلك هي أم الدنيا حتى في كثرة القبور التي تعبد من دون الله، والبدع وغيرها, فلعل الله أن يجعلك من الدعاة إليه على بصيرة, فتولى الأخ المصري وهو فرح بكلام الشيخ ودعائه له.
ومن طرافته: مرة كنا نأكل سوية في أحد المطاعم فسقط شيء من الأكل على ثوب الشيخ ولم ينتبه له فلما انتهينا أخذتُ منديلاً لأمسح ما سقط على ثوبه, فقال الشيخ: خله, حتى يعرف أهلي أني أكلت!
كنا في إحدى المحلات التجارية الكبيرة فكان المحاسب فيه بطء في المحاسبة, وتأخرنا بسببه بعض الوقت, فلما وصلنا إليه, قال له الشيخ: الحمد لله أنكم لا تحاسبونا في الآخرة, و إلا أمضينا سنوات, والحمد لله أن الله هو الذي يتولى الحساب, وهو أسرع الحاسبين سبحانه, فضحك المحاسب.
اتصل بي أحد أئمة المساجد بالرياض طالباً مني معروفاً, فقلتُ: ماهو؟ فقال: أن تأتي بالشيخ سعد الحصين يلقي محاضرة في مسجدي؛ لأن المحاضر وهو معالي الشيخ سليمان أبا الخيل اعتذر لأمر عرض له, فقلت: أبشر، فقلت: للشيخ رحمه الله فوافق, فجئنا على الموعد, فلما بدأ الشيخ محاضرته, كان مما قاله: لا تنتظروا مني شيئاً كما كنتم تنتظرونه من الشيخ سليمان أبا الخيل وفقه الله, فهو أبا الخيل وأنا حصيّن!! فضحك الحاضرون, وانجذبوا لمحاضرة الشيخ حتى انتهى.
- كتبه/ بعين دامعة عضو هيئة التدريس بالمعهد للقضاء