لا تزال الطرفة متداولة عن شيخين من القصيم تحاورا طويلا ً بعد صلاة العشاء في أمور العالم الإسلامي، ثم اتفقا على أنه لم يبق على وجه الأرض من يستحق صفة المسلم المؤمن سواهما. قبل أن يفترقا التفت أحدهما إلى صاحبه قائلاً، حتى أنت يا فلان، أنا لست متأكداً من صدق إيمانك.
لم تأت هذه الطرفة من فراغ، بقدر ماهي نبتة غرست قبل مئات السنين وما زالت تزهر وتتكاثر. من أوضح علامات التخلف الاجتماعي وهشاشته جهوزية الأحكام المسبقة، مع الاتفاق على قبولها، عصبية وتمصلحاً عند طرف، والسكوت عنها ضعفاً وخضوعاً عند طرف آخر، لتستمر مثل الأمراض الوراثية في الانتقال من جيل لآخر.
نستطيع إن صدقنا معرفة وتحديد أشكال وأنواع وجغرافية هذه الآفات، لنرسم بعد ذلك خريطة التطور أو التخلف في أي مجتمع ومدى متانة أو هزال روابطه الاجتماعية، وبالتالي مناعته الوطنية. الآن أصبحت إمكانيات التعرف على الآفات والإيجابيات الاجتماعية سهلة وميسرة، بسبب تقدم الدراسات الاجتماعية القياسية المقارنة في سبر أغوار النفس البشرية والمجتمعات وشروط التعايش المستدام.
في جزئية التعايش بشروط الحكم المسبق المستقر في الذهن أولاً، ثم الانتقاء الانتفاعي من الأدلة الكثيرة المتعارضة، يصدق المثل الشعبي القديم: لاق الصياح بالصياح تسلم. هذه الوصفة القديمة تقوم على افتراض أن الحاجة لإقناع الآخرين بالدليل والحجة الدامغة ليست بأهمية الحبال الصوتية وقدرتها على إحداث الصراخ المضاد. في ذلك يدخل مجازاً الترويج العمد للإشاعات والأكاذيب لخدمة نفس الغرض.
لدينا في مجتمعنا المحلي عدة مجالات مفتوحة للمقامرة بالتعايش الاجتماعي، بطريقة البناء على اختيار الحكم المسبق أولا ً ثم البحث عن الدليل المناسب فيما بعد. من المجالات الأهم في ذلك الحكم المسبق على التأهيل العقلي والأخلاقي للمرأة بافتراض غلبة العاطفة عندها على العقل، ثم البحث في بطون الكتب التراثية عن المناسب من الأدلة لاستمرار السيطرة الخدماتية والحقوقية الكاملة على المرأة. الانتقائية في هذا المجال يصل فيها الاجتزاء لدرجة رفض الرأي الصادر من نفس المرجعيات الفقهية التي تعد أساسية ومقبولة في مسائل فقهية أخرى.
يقع كذلك ضمن المخالفات الاجتماعية التي يتم فيها انتقاء الحكم المسبق مع إهمال البحث عن الدليل الأرجح والأنفع، تفصيل الولاء الوطني على المذهب دون التثبت من صدقية الافتراض والتأكد من الكفاءة والالتزام الوطني ونقاء السيرة الشخصية الذاتية للأفراد.
المخيف والمؤسف أن هذا الباب المفتوح على إمكانيات التقويض الاجتماعي يبقى مشرعاً لمجرد أنه يفي بخدمة التمصلح المؤقت، بالرغم من كونه وصفة متكاملة وجاهزة للتفتيت الداخلي. الطرف الذي يحس بالغبن في أي مجتمع ويطول انتظاره للإنصاف قد يخضع لإغراءات الاستعانة بالانتهازي الغريب، والأمثلة على ذلك ماثلة للعيان.
لنفي التهمة الجاهزة عن المبالغة في جلد الذات، أقدم لكم مثلاً عن الخطورة الكامنة في التعايش مع الأحكام المسبقة بطريقة التأجيل الانتفاعي للحلول. فاز في الانتخابات الأخيرة رئيس حكومة هندوسي عنصري يجاهر بما كان مسكوتاً عنه من التناقضات العنصرية الكبيرة في المجتمع الهندي. الآن يتنبأ المتخصصون الهنود في علوم الاجتماع السياسي بانفجار الأوضاع وانتهاء عقود التعايش في الهند.
الخلاصة: تركيبة التعايش الاجتماعي بشروط الأحكام المسبقة، بناءً على الجنس أو المذهب أو الطائفة أو تكافؤ الأنساب لا تخدم المواطنة المستدامة، بل تقوضها من الداخل.