والله فلا أدري كيف قرّ الهدف له
حتى ركز قلبي على راس مبراة!
- فهد العلوش
هذا جزء من بيت من ألفية الشاعر متعدد المواهب المرحوم فهد العلوش (ت 1405) وعندما أقول جزءاً من بيت فلأن القصيدة (مروبعة) أي ذات أربعة أشطر, وقبله:
السين ... سلهم يوم شفته بغفله
يوم المولع واحدٍ ماوقف له
و(الألفية) و(العروسة) (والمهملة) و(المعجمة) وغيرها من القصائد التي يلتزم فيها الشاعر ما لا يلزم, راجت خلال العقود الماضية, ويلجأ إليها بعض الشعراء للدلالة على الشاعرية والتمكن, ولفهد العلوش قصيدة (معجمة) أي كل حروفها منقوطة, ومطلعها:
قزّيت قزّ غث ذيبٍ يقزّي
شيّب شنب شيخ شقيّ بتثبيت
وأخرى (مهملة) أي جميع حروفها بلا نقط, ومطلعها:
عدى المولع راس ملموم ما طال
وطرى على المولع حلام وعلامه
وكلتا القصيدة ظاهرتا التكلف كما هو الحال في كل مهملة أو معجمة, بخلاف قصائده الأخرى التي تبدو فيها شاعريته المطبوعة.
وفهد العلوش رحمه الله لم يشتهر بين الناس شاعرا وإنما اشتهر ممثلا متعدد الأصوات, يقدم المقاطع الفكاهية ويؤدي أدوار جميع الشخصيات فيها, وهو وعبدالعزيز الهزاع فرسان هذا الفن ولا منافس لهما فيه.
ولولا أن بعض قصائده غُنّيت مثل (الألفية) هذه وقصيدة (أهديت لك يا زين قلبي هدية) اللتين صدح بهما سلامة العبدالله رحمه الله, والقصائد التي غناها فهد نفسه أو ألقاها في ثنايا تمثيلياته الفكاهية, ما عرف الناس أنه شاعر مع أن له ديوانا مطبوعا!
وفهد العلوش على الرغم مما قاساه في حياته ـ ككثيرين غيره ممن عاشوا في وقته ـ من كدح في الحياة, وما عاناه من مرض (السكري) الذي امتص نضارته وروحه حتى قضى عليه, كان فنانا موهوبا وشاعرا مبدعا, لكنه لم ينل ما يستحقه من الشهرة ربما لأنه توفي مبكرا قبل حدوث هذا الانفجار الهائل في وسائل الاتصال والتواصل بفترة طويلة, لكن تمثيلياته الفكاهية المسجلة صوتيا جابت أرجاء الجزيرة والخليج منذ أن عرف الناس المسجلات, ولا يزالون يتداولون عبر اليوتيوب وغيره مقاطعه التي تظهر فيها براعته في التقليد, والأداء, وموهبته الكوميدية في رسم السيناريوهات والحوارات الفكاهية, وقدرته الفائقة على حبك الطرفة والتعبير عنها بتلقائية نادرة. لقد كانت تلك التمثيليات مسرحيات مسموعة, وعملا دراميا كوميديا هو الغاية في الإبداع.
وفي بيت السياحة أعلاه نموذج يشير إلى تميز موهبة فهد رحمه الله الشعرية إلى جانب مواهبه وقدراته الفنية, ففيه براعة في رسم صورة متحركة يقشعر لها البدن, صورة لا يقتنصها إلا خيال شاعر شديد الإحساس, قوي التعبير.
فعندما فاجأ محبوبه برؤيته وهو غافل سلهم المحبوب, والسلهمة عذاب المحبين, وهي نظرة فاترة ساحرة يخالجها الوسن تخدر الرائي, قال ابن سبيل:
من ذاق حب السلهمة ما تناساه
يدبح مشيّب والهوى له طرودة
أي ينحني ظهره من الهرم وهو يطارد الهوى. والسلهمة هي ما وصفها علي بن جبلة أو دوقلة المنبجي أو غيرهما بقوله:
فكأنها وسنى إذا نظرت
أو مدنفٌ لمّا يفقْ بعدُ
بفتور عين ما بها رمد
وبها تداوى الأعينُ الرُّمْدُ
ولما خدره بسلهمته, علّقه واستحوذ على قلبه حتى كأنه ركزه على رأس مبراة, والمبراة هي المطواة وهي سكين صغيرة تطوى وتوضع في الجيب. وإنشاب القلب على رأس سكين صغيرة إنشابا غير عميق, غايته إطالة أمد التعذيب!
وفي القصيدة نماذج من الصور والمعاني الفريدة, منها على سبيل المثال قوله:
أنا أشهد إن الزين يومه يقسّم
أخذ حبيبي قسمته عشر مرات
وقوله:
حبك على القلب الجريح اِمْتلوّي
لك بالحشا يانور عيني محلات
إلخ
وفي القصيدة ظاهرة طريفة, وشاهد على ذوبان حرف (الضاد) في لهجة سكان الجزيرة والخليج واندماجه مع (الظاء) بحيث صارا صوتا واحدا في لهجتهم المنطوقة, قال:
الظاد .. ظنه كان هو مثل ظني
فأنا سعيد وبالحياة متهنّي
وقال:
الضا.. ضميري صار كله حِراقه
وأسبابه المجمول طوّل غيابه
فالضاد في بيته ظاء والظاء ضاد, وقال (الظاد) و(الضا), وهو يقصد (الضاد) و(الظاء).