دائما ما يتكرر التسائل الأشهر في ثقافتنا المعاصرة، لماذا لم يتوقف إنتاج التطرف عبر السنين؟، ولماذا تعود حلقات العنف كلما قررنا المضي إلى الأمام في طريق الأمم المتحضرة؟، فالجمود الذي دأبنا على تصديره في ماضي الأزمنة أصبح يعود إلينا قنابل وأحزمة ناسفة، وإذا لم يتحرك الجميع لمعالجة الجمود في الفكر الديني المحلي، سنظل في حلقات العنف إلى أن يشاء الله.
الأزمة التي نواجهها أن الفكر الديني الحالي تأسس واكتملت أضلاعه في بيئة غير متعلمة، بل موبوءة بالجهل والتخلف والقسوة، وكان الفهم الديني في ذلك الزمن جامد وغير قابل للتطور، وقد نتج عن ذلك خروج أجيال من علماء الدين يرفضون مبدأ التطور والجديد، ويصطدمون بالحقائق العلمية القطعية، ويستمدون قوتهم من الغالبية غير المتعلمة، وتظهر تلك الرؤية من خلال الفتاوي التي أصدروها عبر العقود.
كان من نتائج ذلك، أنهم اختاروا أن يعيشوا في معزل عن القفزات الحضارية التي مر بها المجتمع السعودي، فقد غابوا عن مباركة التنقيب عن النفط من قبل الخبراء الغربيين، وغابوا عن تشجيع قرار تدشين دخول التكنولوجيا الحديثة للبلاد، وعن تأييد فتح البنوك والمعاملات الاقتصادية الحديثة، وعن تقرير حرية العبيد المملوكين، وغابوا عن مباركة برنامج الابتعاث للخارج، كانت السلطة الإدارية ملزمة أن تتخذ تلك القرارات، وإلا واجهنا ضنك العيش والتقوقع خلف جدران الطين في الواحات الزراعية.
عدم مباركة علماء الدين لتلك القرارات الإستراتيجية جعل منها مخالفة لتطبيق الشريعة في نظر المتطرفين والمتعصبين، وهو ما يبرر خروج بعضهم في مواجهة المجتمع والدولة، ومن أجل فهم تلك المفارقة علينا تأمل تطبيقات دولة داعش لمفهوم الجمود، والتي تستمد تعلمياتها من تيار الجمود الديني المحلي، وليس من إسلام قرطبة وبغداد في القرن الرابع عشر الهجري، والذي ساعده قربه الزمني والذهني من عصر النبوة والسلف الصالح أن يتحرر من القيود والتقاليد.
كان آخر أعراض الجمود الفكري الديني الممانعة في إصدار فتوى في منع زواج القاصرات، برغم من عدم وجود نص يجيز الزواج من الأطفال وممارسة الجنس معهم، والمعلوم أن جنحة ممارسة الجنس مع الأطفال تعتبر حالة غير طبيعية وشاذة، وتستحق العقاب الشديد في القانون المعاصر، وأن تنظيم الزواج إدارياً لا يخالف الشريعة، فقد قرر عمر بن الخطاب في منع الزواج من الكتابيات برغم من وجود نص قرآني يبيح للمسلمين الزواج من الكتابيات.
تشخص بوضوح حادثة منع الخليفة الثاني الزواج من الكتابيات برغم من وجود نص قرآني يجيز الزواج منهن، والممانعة الحالية في إقرار منع الزواج من الأطفال الإناث، برغم من عدم وجود نص صريح وقطعي، حالة الجمود التي طالت الفهم الشرعي للدين الحنيف، وهي حالة نفسية طارئة، ظهرت متأخرة بعد صعود تيار فقهي مهووس بالهلع من موجات التغيير والتطور، وكان توقيت خروجها في القرن الرابع الهجري، بعد انفتاح المسلمين على الثقافات الأخرى، وبدء عصر الترجمة.
بسبب تلك الممانعة المستمرة في إصدار الفتاوى في مجالات الحياة المستجدة، يرفع المتطرفون قميص مخالفة الشريعة في حالة صدور أي قرار إداري يمنع زواج القاصرات أو الأطفال الإناث أو يمنع الرق أو يجيز الابتعاث للخارج أو يجيز العمل للمرأة، ثم يستخدمونه لإثارة التطرف في المجتمع، ولهذا ستطول الحرب مع التطرف، وربما تأخذ عقوداً أطول مما نتصور، وهو ما يستدعي الاستعداد لها من خلال رفع مستويات الوعي عن حالة الجمود التي تعتري الفهم الديني المعاصر.
لذلك تبدو الخطوة الأهم في التغيير الآمن في المستقبل هو دخول عنصر الثقافة بكل ما تعنيه الكلمة إلى دواوين الإفتاء، وخروج أجيال من علماء الدين يتميزون بالعلم الديني والثقافة التي تعني القدرة على الاطلاع والمقارنة والاجتهاد، وأعتقد أننا لسنا بعيدين عن تلك المرحلة، وسيذكر التاريخ في المستقبل وبعد نهاية عصور التطرف والجمود أن برنامج خادم الحرمين شفاه الله للتعليم العالي في شقيه الداخلي والخارجي كانت نقطة التحول في الخروج النهائي من نفق الجمود، والله على ما أقول شهيد.