لازالت تحديات الحضارة الإنسانية في الوطن تواجه مأزق العقل السلفي وطريقته في فهم النصوص، كان آخرها زواج القاصرات دون سن الخامسة عشر عاماً، وكان آخر فصولها رفع وزارة العدل منذ عامين مشروعا كاملا متضمنا مسببات نفسية واجتماعية وصحية حول ضرر زواج الفتيات دون سن الـ15 عاما للرئاسة العامة للبحوث والإفتاء، مطالبة فيها بإصدار فتوى للحد من زواج القاصرات.
كان الرد من دار الإفتاء مقتضباً، ويشدد على أنّ زواج القاصرات دون سن الـ15 عاماً جائز ولا شيء فيه، مؤكدا أنه لا توجد حتى الآن أي نية في البحث في هذا الموضوع، ولم أتوقع شخصياً إجابة غير تلك من دار الإفتاء، فالأمر لا يتعلق بقضية زواج قاصرات، ولكن بموقف العقل السلفي من المستجدات، والذي قد يواجه مأزقاً أكبر لو أفتى بتحريم زواج القاصرات.
فالعقل السلفي ينطلق من مسلمات مطلقة، أساسها أن ممارسات القرون الأولى لا يمكن تغييرها أو الحكم عليها بالحل أو التحريم، وأن تلك الفترة الزمنية حسب المدرسة السلفية مرآة للتطبيق الحرفي للنصوص، وهو ما يجعل من مهمة المفتي أو غيره في موقف صعب جداً لتحريم ممارسات كانت مقبولة وجائزة عند الجيل الأول في صدر الإسلام.
لذلك كان من الخطأ حسب وجهة نظري أن تطالب وزارة العدل المفتي بأن يصدر حكماً شرعياً في زواج القاصرات، وكان من الأنسب أن يكون القرار إدارياً، يلتزم به الجميع مثلما التزم الصحابة بقرار الخليفة عمر بن الخطاب بمنعهم من زواج الكتابيات بعد فتح الشام، فقد كان القرار إدارياً، برغم من أنه كان جائزاً شرعياً.
ودليله أن عمر رضي الله عنه لما علم أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية كتب إليه: خل سبيلها، فكتب إليه حذيفة: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن: وفي رواية إني أخشى أن تدعوا المسلمات وتنكحوا المومسات. ويدخل في ذلك قرار منع الرق في البلاد، فقد كان قراراً إدارياً صرفاً، ولم تصدر فتوى شرعية تحرم الرق، وذلك لمعارضة تحريم الرق للمنهج السلفي في فهم الدين، وسرى التطبيق على كافة فئات المجتمع، ولم يعارض علماء الدين تطبيق القرار لما فيه مصلحة للناس.
كذلك جاء قرار إضافة الصور الفوتوغرافية في الهوية للرجال ثم النساء بقرار إداري برغم من تحريم دار الإفتاء للصور الفوتوغرافية حسب فهمهم للنصوص، وسرى تطبيق النظام، ولم يعارض علماء الدين لاحقاً وضع صورهم في الهوية الوطنية.
كان أيضاً قرار تعليم البنات إدارياً، وعارضته المدرسة السلفية بناءاً على فهم محدود للنص، وتبين لاحقاً أن القرار الإداري كان صائباً، وتجاوزنا المعضلة بحكمة القرار الإداري، ولم تتوقف مصالح الناس عند الإصرار على تغيير الفتوى السلفية إلى الجواز بعد أن صدر تحريم تعليمهن بفتوى.
لم يلتفت قرار فتح البنوك وإدخال البلاد إلى مفاهيم الاقتصاد العالمي إلى معارضة الفتوى السلفية إن صح التعبير، ولو فعل ذلك لوقعنا في أزمة اقتصادية، ولتوقفت مصالح البلاد والمواطنين، ولما استطعنا مواكبة التطور الاقتصادي في العالم الحديث.
لن أستطرد في سرد القرارات الإدارية التي تجاوزت بعض الأحكام التي تعارض مصالح الناس ومنافعهم، فهي كثيرة، وسأحتاج إلى صفحات عديدة لسردها، وتعود في التاريخ إلى القرون الأولى، فالعقل الإنساني يملك الحكمة والشجاعة لتجاوز الأزمات والتعارض في فهم النصوص.
لذلك لا أفهم لماذا طلبت وزارة العدل من دار الإفتاء إصدار حكم شرعي في تحريم زواج القاصرات، وهو يخالف المبدأ السلفي في النظر للأشياء، ولو أصدروه لوقعوا في المحظور السلفي، ولخرجوا من المدرسة التاريخية في فهم النصوص من أوسع أبوابها.
قرار منع زواج القاصرات ضرورة لا غنى عنه، ويتطلب قراراً إداريا صرفا، ويجب أن يصدر من خلال سلطة القرار التنظيمي، مثلما أصدر الخليفة عمر رضي الله عنه قراره بمنع الزواج من الكتابيات، وهو يدرك أنه حلال كما جاء في النص، لكنه كان يدرك رضي الله عنه أن تنظيم الحلال أيضاً جائز، ولا يخالف الشرع الإسلامي، وهو من مقاصد الشرع الحنيف، والله المستعان.