يروى أن خوّاض الغمرات وأسد الشرى أبو جعفر المنصور كان جالسا بين بعض رجالاته فسألهم : أتدرون من صقر قريش؟ فكان ردهم: أنت يا أمير المؤمنين! فأجابهم بالنفي! ثم شرعوا في ذكر الخلفاء والعظماء والقادة عباسيين وأمويين، فلم يكن هناك مستحق للقب عند أبي جعفر حتى معاوية رضي الله عنه!
فلما أعيتهم حيلة الجواب أجابهم قائلاً : هو عبد الرحمن بن معاوية! دخل الأندلس وحيداً، مؤيداً بعزيمة مستصحباً لهمة، عانى الفقر وعبر البحر وصبر وظفر! ومن يا عساه يكون هذا الاسم؟ إنه خصم بني العباس الأول ذلك الوقت! وما فعله أبو جعفر هو قمة الإنصاف! وهو ما يكون مع الخصوم! وإنصاف الخصوم بذكر محامدهم ومناقبهم ليس بالأمر اليسير على النفس البشرية؛ إذ إن عين السخط لا ترى إلا في اتجاهٍ واحد ولا تبصر إلا المثالب ولا تقع إلا على الأخطاء!
وهناك ثمة ثلاثة مواطن إذا أنصف فيها الإنسان فثق بعقله وتيقن من صفاء قلبه، وهي: الإنصاف مع الأعداء والخصوم، والإنصاف مع الضعفاء وقليلي الحيلة، والإنصاف مع المنافسين والأقران، فلو تحلّى الإنسان بخلق الإنصاف في هذه المواطن الثلاثة ، فجزماً سيكون منصفاً في غيرها!
وللأسف أن الإنصاف هذه الصفة السامية والخلة الرفيعة أضحت نادرة ؛ بل هي أندر من الكبريت الأحمر، وقلّما تجد منصفاً مع الآخرين حتى مع خلو الحال من الخصومة ؛ فمن المألوف أن تجد التشكيك في النوايا والتركيز على السلبيات وتضخيم الصغائر حتى في أوقات الصفاء!
أما حال الاختلاف فحدث ولا حرج ؛ فلا تورعٌ عن الفجور في الخصومة والنّيل من المختلف معه ونبش الماضي وفري العرض والرمي بالكذب، والمختلف معه إن فعل جميلاً أُنكر وإن قال صواباً لم يُسمع وإن أحرز خصلة محمودة جُحدت! وقد تصل الأمور لنصب المصائد وفتل الحبائل وحفر الحفر!
وقد روي أنّ أبا نعيم الحافظ ذُكر له ابن مندة، فقال: هو جبل من الجبال! قال الذهبي رحمه الله معلقاً: فهذا يقوله أبو نعيم مع الوحشة الشديدة التي بينهما!
فإنَّ رجَالًا قَدْ سَمَو بِبُلُوْغِه
وفَرَّطَ فِيْهِ جمُلةُ الأنْصَاف
يقول فولتير : (سأختلف معك، ولكنني سأقاتل كي تبدي رأيك!) المنصف ناضج العقل وافر الحكمة، لا ينسى سبق الخير ولا جميل الفعل، ولا يتعامى عن الظروف والسياقات التي حملت المخطئ على ما فعل!
بل من قواعد الشرع والحكمة أن من غلبت حسناته وكثرت محاسنه وعظمت محامده، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل من غيره ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، عذره ممهد والعتب عنه محطوط؛ فإنّ الخطأ الصغير مع جليل الخير كالخبث في النهر، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث!
إنه لأمر معلوم عند نبلاء الناس وحكمائهم، ومستقر في عقول الأسوياء أنّ من له مئات الحسنات ؛ فإنه يسامح بالسيئة! ولا يغيب عنا فعل حاطب بن أبي بلتعة وكيف أن مشهده العظيم يوم بدر منع من ترتب عقوبته عليه!
يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله -: (والله تعالى يحب الإنصاف، بل هو أفضل حلية تحلى بها الرجل)، والإنصافُ يحبب صاحبه للناس ويجعله أكثر تأثيراً وأوفر احتراماً ؛ وهو يدل على صفاء السريرة، ونقائها من أن تكون قد علق بها شيء من دنس الحسد، أو حام بها شيءٌ من حبِّ الذات.
وضعف الإنصاف سم زعاف للعلاقات، يورثها الانقطاع، بل هو أحد المصائب التي يصاب بها الإنسان، يبعد الاحترام ويسقط المكانة ويضعف الحجة ويرسم علامات الاستفهام حول النوايا!
قال الإمام مالك - رحمه الله -: «ما في زماننا شيءٌ أقل من الإنصاف « قال القرطبي - رحمه الله - معلقاً على كلام مالك: «هذا في زمن مالك .. فكيف في زماننا اليوم الذي عم فيه الفساد وكثر فيه الطغام؟!» وأقول ما الظن بزماننا هذا؟!
وكم هو موجعٌ عندما يجنح البعض لوضع ما يقولون وما يفكرون فيه، وما يرونه معايير للصواب وأوصافاً للحق! والصواب أكبر منهم والحق أوسع مما يخرج منهم! ومن عجائب هؤلاء أنك قد تراهم مستقبلاً يقارفون ما كانوا يرونه اليوم ذنباً عظيماً وإثماً جسيماً عند الآخرين!
تقولُ هذا مِجاجُ النحلِ تمدحُهُ
وإن تشأ قلتَ ذا قيءُ الزنابيرِ
مدحاً وذماً وما جاوزتَ وصفهما
والحق قد يعتريهِ سوءُ تعبيرِ
ويحمل البعض على عدم الإنصاف شدة اللؤم وقلّ التديُّن، قلبٌ مريض وضمير سقيم، ويعتبر أس الشر الحسد باعث كبير ومحرض قوي على عدم الإنصاف؛ فالحاسد يتنكب الطريق السوي، ويترك سبل الخير، ويجعل من الحيف وقلة الإنصاف واختلاق الأباطيل وافتراء الكذب درباً للتقليل من قدر من يعاديهم أو من ينافسهم وسلماً للحوق بهم، وأحسب أنّ أقصر طريق للإنصاف وأسهل وصفة له، هي توجيه ابن حزم حيث قال : (مَن أراد الإنصاف فليتوهّم نفسه مكان خصمه، فإنه يلوح له وجه تعسفه).
ومضة قلم:
كل الناس سيموتون، ولكن ليس كل الناس أحياء!