وأنا أكتب هاته المقالة نزلت عليّ كالصاعقة خبر هجوم برشاش وقاذفة صواريخ شنه ثلاثة ملثمين على مقر صحيفة شارلي ايبدو في باريس، المدينة التي أحب الذهاب إليها كثيراً وهي تعج بالمفكرين والباحثين والمثقفين ورجالات الدولة أخالطهم ويخالطونني...
..بعض منهم أخالط بعضهم كما يزورني في فاس، سواء للمشاركة في المنتديات الدولية التي أنظمها أو للتدريس أو للمشاركة في مشاريع تنموية أو بحثية؛ كما أنّ أكثر مؤلفاتي طبعت في ديار نشر باريسية عالمية، ولم أعرف من هاته المدينة وأهلها إلا الخير الكثير، وسعادتي أكبر لما أرى واحداً من الفرنسيين أو الأجانب في وسائل النقل العمومية يقرأ كتاباً من كتبي، فأسعد لأنني أحس بأنّ هناك تواصلاً وجدانياً ونساهم جميعاً في بناء لبنات الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك... قتل إلى حدود كتابة هاته الكلمات اثنا عشر قتيلاً بينهم شرطيان، على ما أفاد مصدر قريب من التحقيق، في عملية غير مسبوقة ضد وسيلة إعلام في فرنسا. وبين القتلى أشهر رسامي الكاريكاتور في الأسبوعية الساخرة هم شارب وكابو وولينسكي وتينوس. والاعتداء هو الأكثر دموية في فرنسا منذ أزيد من خمسين سنة. ونقل مصدر في الشرطة الفرنسية عن شهود عيان أن منفذي الهجوم هتفوا «انتقمنا للرسول!». كما أنه في تسجيل فيديو للهجوم التقطه رجل لجأ إلى سطح بناء ووضعه على الإنترنت موقع فرانس تلفزيون العام يسمع رجل يهتف «الله أكبر الله أكبر» بين عدة عيارات نارية. وتتبعت على التلفاز تصريحات عدد كبير من قادة الدول عن إدانتهم الشديدة للهجوم «الإرهابي» و«البربري» وكان رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون أول المنددين بالهجوم «الإرهابي الشنيع» معبراً عن تضامنه مع فرنسا في معركتها ضد الإرهاب. كما دان الرئيس الأميركي باراك أوباما الهجوم الذي وصفه بأنه «إرهابي». وقال أوباما «نحن على اتصال بالمسؤولين الفرنسيين، وقد أوعزت إلى إدارتي بتقديم المساعدة المطلوبة لإحضار الإرهابيين أمام العدالة». وقد ندد البيت الأبيض «بأشد العبارات» بالهجوم مؤكداً «التضامن مع عائلات الذين قتلوا أو جرحوا في هذا الهجوم». وقالت ميركل «أصبت بالصدمة فور معرفتي بالهجوم الحقير على الصحيفة في باريس»، مضيفة «أود أن أعرب لك ولمواطنيك في هذه الساعة من المعاناة عن تعاطف الشعب الألماني وحزني شخصياً كما أقدم تعازي لعائلات الضحايا».
ودان المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية الهجوم وأكد «باسم المسلمين في فرنسا» أنه عمل «بربري بالغ الخطورة وهجوم على الديموقراطية وحرية الصحافة». وفي بيان منفصل ندد اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا بـ«أشد العبارات بالهجوم المجرم وعمليات القتل المرعبة»..... ولله الأمر من قبل ومن بعد.
الساعات المقبلة ستكشف عن كثير من المعطيات ...ولكن وللمرة الألف نعيدها ونكتبها: هؤلاء لا يمثلون الإسلام أو الدين في شيء. فإيمان الفرد ودينه يرجع قبولهما ورفضهما كما ثوابهما إلى الله سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، فلغة الإكراه غير موجودة في القرآن {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، فهذه هي طبيعة المقاربة القرآنية السلمية بل والمصيرية لظاهرة الاختلاف بين البشر، لأنّ نقيض ذلك سيؤدي إلى النزاع والصراع، وسيميت «ثقافة الحوار» التي تستوعب التعددية الفكرية والاعتقادية، وتسلم بضرورة التعايش بين الأديان والانفتاح على ثمار الحضارات الإنسانية المتعددة. ومن المغالطات الشديدة التي تعصف بالفكر الغربي عمداً أو تناسياً، رد الأعمال الإرهابية، التي يقوم بها بعض شباب المسلمين إلى طبيعة الدين الإسلامي، وربط بعض الفترات الاستثنائية التي مر بها المسلمون إلى نوع الحضارة العربية الإسلامية؛ فالتعاليم والتاريخ شيئان مختلفان، والتعاليم الدينية هي التي تحاكم أفعال الناس التي يقومون بها باسم الدين وليس العكس، فالآية الكريمة {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}، هي التي تحاكم ذلك الإرهابي الذي يفجر نفسه وسط الناس الأبرياء سواء كانوا مسلمين أو لا، والآية صريحة لا غبار عليها، ثم إنّ ذلك الإنسان إذا لم يخضع لسلطان هذه الآية فإنّ القرآن يحدد عقوبته: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
فإذا ثبت جرمهم، فلا علاقة للإسلام بهم وإنما هم إرهابيون، والإرهاب لا دين له ولا ملة.
ونذكر هنا باعتداء كان قد هز النرويج منذ مدة من طرف شاب لا يتعدى عمره 32 سنة، سعى حسب زعمه «تطهير أوربا من المسلمين بحلول 2083» بإشعال «حرب صليبية ضد المسلمين»؛ وكان قد نشر على الإنترنت قبل إقدامه على هذا الإجرام المدان، «مانفستو» أو ميثاقاً في 1500 صفحة كتبه على مدى ثلاث سنوات، يجمع بين دليل صناعة القنابل، وما يظنه عن الإسلام والتعدد الثقافي في أوروبا والعالم، وما يظنه عن سياسات أصحاب القرار في أوربا، والاستشهادات التاريخية بالمسيحيين المتطرفين والسياسة الدعائية المغرضة؛ وتنبأ السفاح بريفيك بأنه سوف ينعت بأكبر وحش نازي منذ الحرب العالمية الثانية «وأنه قائد فرسان الحق».
إرهابي النرويج كان نتيجة الخطابات والسياسات الأوروبية السلبية في حق المهاجرين المسلمين منذ عقود، غذتها باستمرار وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، وجعلت المسلمين رهائن لحسابات سياسوية وأمنية خلطت بين الأخضر واليابس، بين الهجرة والإرهاب، وبين الإدماج والمخدرات والجريمة؛ وازداد هذا العداء الرسمي الذي يجد له مريدين في المجتمع مع خطر الهجمات الإرهابية بعد 11 سبتمبر 2011 الذي يكبر له كل من أراد أن يجمع أكبر عدد من الأصوات في الانتخابات، وحملات حرق المصحف كما حدث بالولايات المتحدة الأمريكية والآن حرق المساجد بسويسرا، والتأييد الشعبي لمنع بناء المآذن كما حدث في سويسرا وحظر النقاب كما وقع في فرنسا.
وقبل أخذ القرارين الأخيرين (منع بناء المآذن وحظر النقاب) قامت الدنيا ولم تقعد في سويسرا وفرنسا، فأنشئت المجالس المختصة في البرلمانات، وأقيمت المؤتمرات والبرامج التلفزية اليومية على طول السنة، وتدخل رؤساء الدولتين ومستشاروهم في أكثر من مرة، لشرح حظر بناء الصوامع ووضع النقاب ومن خلال ذلك وجود المسلمين فوق ديارهم، وصعوبة إدماجهم، وتسارع الجريمة بمقدم الجيل الثاني والثالث من المهاجرين المسلمين، وتأتي الجماعات الأوروبية المتطرفة لا لتؤازر هاته السياسات، بل لتوبخها لأنها لم تتبعها منذ عقود، لتظهر أكثر صلابة وقوة وتزيد في هجماتها على الإسلام والمسلمين.
ما كان قد وقع في النرويج كان درساً موجعاً لكل السياسويين الأوروبيين الذين تسلقوا سلالم المناصب على حساب تأجيج وتغذية الكره للإسلام والمسلمين والنفخ في العداء، وهو الذي ولد إرهاب أندرس بريفيك؛ وكم أعجبتني في تلك الفترة تحليلات الإعلام العربي في غالبيته لأنه لم يصف الإرهاب النرويجي بإرهاب مسيحي، ونفس الشيء يجب أن يقال عن هاته البربرية الدموية التي وقعت في باريس... فالإرهاب لا دين له ولا ملة بل هو آفة عالمية.