وقعت أحداث استثنائية بالمنطقة في السنة الماضية من داعش إلى انخفاض سعر النفط وسوق الأسهم، فارتفعت أسهم توقعات الخبراء للسنة الجديدة، الذين لم يذخروا توقعاً إلا وقالوه! لكن ماذا عن توقعات الناس، فاستعداداتهم الذهنية تلعب دوراً مهماً بترجيح التوقعات..
لعل نتائج الاستطلاعات المتنوعة التي تقوم بها مؤسسة غالوب وآخرها قبل أيام على 65 بلداً توضح جزءاً من الصورة. بين هذه البلدان خمسة عربية: السعودية، المغرب، العراق، لبنان، فلسطين؛ ومنها أيضاً أفغانستان وباكستان سأضيفهما للمقارنة بحكم قربهما من المنطقة وتشابه ظروفهما لمنطقتنا.
هل أنت متفائل بمستقبل بلدك للعام الجديد، أم سيكون أسوأ، أو مثل سابقه؟ الإجابة بأنها ستكون أفضل تقدمتها، عربياً، السعودية (76%) والمغرب (75%)، أما الأخير فكان لبنان (29%) وهو الأكثر تشاؤماً بالعالم، وليس بعيداً عنه العراق (36%)، فيما كانت فلسطين بالوسط (53%). الأفغان (71%)، والباكستانيون (70%) أظهروا تفاؤلاً أكثر من عموم معدل العرب ومن المعدل العالمي (53%).
سؤال آخر: مقارنة بالسنة السابقة: هل برأيك هذه السنة سيكون الاقتصاد في بلدك مزدهراً أم يواجه صعوبات أم سيظل كما هو؟ كان المغاربة بالمقدمة عن توقعهم بتحسن الوضع الاقتصادي (70%) ثم السعوديون (61%)، وانحدرت عينة لبنان إلى نسبة مأساوية 16% هي الأسوأ بالعالم، ونسبياً العراق 29%، وكان الفلسطينيون بالوسط (43%). ومرة أخرى أظهر الباكستانيون (61%) والأفغان (56%) تفاؤلاً أعلى من المتوسط العربي ومن المعدل العالمي الذي كان 42%.
سؤال الأمن صار له نصيب أساسي هذه الأيام: بالنسبة للصراعات الدولية، هل تعتقد أن هذه السنة ستكون أكثر سلماً أم أكثر نزاعاً أو ستظل على الوتيرة نفسها؟ المغاربة كانوا الأكثر تفاؤلاً بنسبة 59% يرونها أكثر سلماً، ثم السعوديون (47%)، فالباكستانيون (43%) والأفغان (40%)، أما نسبة لبنان فانحدرت إلى 17% والعراق 28% وفلسطين 29%.
كل هذه الأسئلة محصلتها الوصول إلى سؤال أساسي: هل أنت سعيد أم تعيس أم لا هذا ولا ذاك؟ السعودية تقدمت نسبة من قالوا أنهم سعداء بـ87% ثم المغرب (79%)، بينما كان المعدل العالمي 70% الذي كان قريباً منه كل من باكستان (68%) ولبنان (67%) وأفغانستان (66%)، بينما كان العراقيون أقل بلد بالعالم سعادة (31%)، وأعلى بلد تعاسة؛ من يلومهم فلا غرابة بالنتيجة؟
الغريب أن أكثر بلد أجاب سكانه أنهم سعداء هو من أفقر البلدان وهي جزيرة فيجي بنسبة 93%، كما أن قارة أفريقيا التي تضم أفقر دول العالم أظهرت أعلى نتيجة، حيث بلغ معدل من قالوا أنهم سعداء 83% من المشاركين بالمسح، فيما حصلت قارة أوربا على مراتب متأخرة رغم أن البلدان الاسكندينافية متقدمة نسبياً بالسعادة (فنلندا 80%، دنمرك 77%).
كثير من الدول الغنية أظهرت ترتيباً متأخراً، وكذلك دول الشرق الأوسط. وإذا كانت الأخيرة يمكن تفسيرها لوضعها المتأزم فكيف يمكن تفسير أن يهبط معدل من قالوا أنهم سعداء في فرنسا إلى 43% وفي بريطانيا 49% واليابان 58% وألمانيا 59% وأمريكا 61% بينما في دول بعضها مدقع فقراً ترتفع النسبة، مثل: كولومبيا 90%، الفلبين 86%، أذربيجان 85%، الهند 83%..!
هل هناك مشكلة في المسوحات التي قامت بها مؤسسة غالوب؟ لكن هذه المؤسسة صممت على مدى سنوات قاعدة بيانات متنوعة وتقارير سابقة شملت دول العالم كافة حول السعادة وحول كيفية تيسير حياة الناس من خلال مساهمة خبراء متخصصين للبحث عن البعد المفقود في مقياس السعادة؛ وأظهرت تلك التقارير نتائج مشابهة للمذكورة هنا.
إنما بعض المسوحات الأخرى أظهرت نتائج مخالفة تماماً، مثل تقرير السعادة العالمي الأول الذي جمع بيانات واستبيانات ومسوحاً في 156 بلداً على مدى فترة من 2005 حتى 2011م، حاسباً جملة من العوامل كالصحة والأمن الأسري والوظيفي والضمان الاجتماعي والوضع السياسي والفساد الحكومي.. (معهد الأرض، جامعة كولومبيا الأمريكية). زبدة التقرير أن أسعد البلدان هي الدول الغنية، وفي مقدمتها دول أوروبا الشمالية (الدنمارك، النرويج، فنلندا، هولندا)، وكان ترتيب السعودية 26؛ وأقل البلدان سعادة هي أفقر الدول الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى (توغو، بنين، إفريقيا الوسطى، سيراليون، بروندي).
إذا كانت الدراسات العالمية تختلف إلى هذه الدرجة، فكيف نقيس السعادة؟ المقياس ليس سهلاً، حتى لو قيل أن السؤال المباشر هو أفضل المقاييس، لأنك قد تسأل شخصاً تعيساً هل أنت سعيد ويجيبك بنعم.. وقد تسأل فقيراً يجهل حقوقه ويجيبك نعم. لذا السؤال المباشر ينبغي أن يكون متنوعاً حول المشاعر كالشعور بالأمان أو بالقلق أو بالغبن..
قد يقال أن الدخل المادي هو مقياس السعادة، لكن الدخل المرتفع لا يعني بالضرورة ارتفاع السعادة، كما أوضحت دراسة دانيال كانيمان (حائز على جائزة نوبل للاقتصاد) وانجوس ديتون. أظهرت الدراسة أن الدخل في أمريكا له تأثير كبير على المشاعر الإيجابية اليومية عندما يحصل الفرد على ما يصل إلى خمسة وسبعين ألف دولار سنوياً، لكن بعد ذلك، أي دخل إضافي لا يشكل فارقاً كبيراً للمشاعر. لذا فإن القادة الذين يبحثون عن طرق لتحسين حالة شعوبهم، خصوصاً البلدان ذات الوضع الاقتصادي الجيد يحتاجون إلى بذل المزيد من الجهد لوضع الرفاهية في إستراتيجياتهم.
مقياس السعادة يحتاج إلى دمج العديد من المعايير المادية (الدخل، مستوى المعيشة، الصحة، الأمن..)، مع المعايير المعنوية (الترابط الاجتماعي، الاستقرار الأسري، الصحة النفسية..)، مع معايير الأسئلة المباشرة. لكن هناك مؤسسات علمية اقتصادية ترى أنه ليس من المناسب استخدام المعايير المعنوية والأسئلة المباشرة لأنها غير واضحة بل عليها أن تكون رقمية محسوبة بوضوح.
أين تكمن السعادة؟ هل في الصحة الجسدية أم النفسية أم الثروة أم النجاح..؟ ستظل الإجابة صعبة، لكن الذي لا شك فيه هو أن توفير مستويات المعيشة الأساسية ضروري للسعادة، إلا أنه بعد الحصول عليها تتفاوت السعادة مع جودة العلاقات الإنسانية أكثر مما هو مع مستوى الدخل. لذا على الأهداف السياسية لكل بلد أن تتضمن ارتفاع فرص العمل وجودة ظروفه، وبناء وسط اجتماعي قوي وآمن مع مستوى عال من الاحترام والثقة.. ومع ذلك ستظل الإجابة على ما هي السعادة مراوغة..