تعتبر مؤسسات المجتمع المدني مرآة الخطاب المتحضر في المجتمعات، وتعني أن أفراد المجتمع يستيطعون المشاركة في النشاطات المدنية من أجل إيصال أصواتهم لمختلف الجهات، وأن يتبنوا الخطاب الذي يعبر بشكل سلمي عن آرائهم، بعيداً عن المشاحنات والعواطف السلبية، وكانت جمعية حماية المستهلك في السعودية نشاط شبه مدني يحسب للوطن، وفيه رسالة للعالم أن الصوت الثالث للمستهلكين خارج أفق التجار ورجال الأعمال والجهات الرسمية متواجد في المجتمع، ويقدم دفاعه من خلال النظام عن مصالح المستهلكين في المجتمع.
لكن يبدو أن مستقبلها أصبح في طي النسيان، بعد أن قررت وزارة التجارة والصناعة أن تكون جمعية حماية المستهلكين تحت رقابة التجار ومعالي وزيرها، وأن تتحول إلى صوت خافت لا يستطيع أن يعبر بقوة القانون والنظام عن مظالم المستهلكين أمام تيار التجار القوي، وبالفعل صدر القرار بتنظيم جمعية حماية المستهلك الجديد، وتكليف وزير التجارة والصناعة بتعيين أول مجلس تنفيذي للجمعية بعد صدور هذا التنظيم، وبذلك تفقد الجمعية عذريتها، وتصبح مجرد فرع من فروع وزارة التجارة والصناعة، وسيكون المستفيد الأول هم التجار ومصالحهم، وسيكون الخاسر الأول المواطن المستهلك.
كانت ردة فعل الوزارة على المصاعب المالية والتنظيمية التي تواجهها الجمعية أن استغلت ظروفها وأخرجتها من أن تكون جمعية مدنية مستقلة إلى أن تصبح جهة رسمية، وكان من الأفضل مساعدتها لكي تنهض من كبوتها ومشاكلها من أجل أن تكون مثال ناجح للنشاط المدني في المجتمع، وتحدياتها تدخل في الصعوبات المتوقعة في مجتمع لايزال يتهجأ الأبجدية في تجربة مؤسسات المجتمع المدني.
وقد قدم رئيس جمعية حماية المستهلك الدكتور ناصر آل تويم استقالته إلى المجلس التنفيذي للجمعية احتجاجاً على ما وصفه بالموقف المنحاز لوزارة التجارة والصناعة مع الغرف التجارية ضد الجمعية، وأعلن أنه لن يرشح نفسه في أي انتخابات قادمة للجمعية في حالة إقرار المشروع الجديد والذي سيحول الجمعية إلى إدارة بيروقراطية تحت وصاية وزارة التجارة والصناعة.
في نفس الإطار واجهت الهيئة السعودية للمهندسين أزمة مماثلة، فقد قدم رئيس مجلس إدارة الهيئة السعودية للمهندسين المهندس صالح العمرو استقالته قبل سنتين من منصبه، احتجاجاً على ما اعتبره تدخل وزير التجارة والصناعة في عمل الهيئة المنتخب أعضاء مجلس إدارتها، إلى جانب تجاهل الوزارة شكاوى قدمها المجلس الحالي للهيئة تتضمن مخالفات ومآخذ إدارية ومالية بحق أعضاء من مجلس الإدارة السابق، وفشلت محاولات الهيئة في نيل استقلالها من وزارة التجارة والصناعة لتصبح هيئة مدنية.
تجربة مؤسسات المجتمع لازالت وليدة في المجتمع، ولم تصل إلى مرحلة الفطام، وتبحث عن مكان لها في الحضور الطاغي للجهات الرسمية ورجال الأعمال، وكانت بمثابة الأمل الذي من خلاله سيخرج المجتمع بتدرج من حالة الصمت التي عانى ويعاني منها المجتمع منذ عقود في الساحة المدنية، والتي بسببها تحول الخطاب المدني ليكون صوتاً نشازاً في الهامش، في وسائل التواصل الاجتماعي، وليتحول إلى صوت غاضب ومتشائم، لكنه يتمتع بحضور قوي في تلك الساحات.
كنا ننتظر من الوزارة بقيادة وزيرها النشط أن تعمل في إطار مهمتها الرئيسية، وهي تطوير مجالات التجارة والصناعة، وإدخال البلاد في مرحلة الصناعة المنافسة، عبر نقل تجارب الدول الآسيوية الناجحة في الصناعة إلى الوطن، وتلك حسب وجهة نظري تأتي على رأس قائمة مهامها، لكن الوزارة ركزت في جهودها على منافسة جمعية حماية المستهلك في خدماتها.
ختاماً لازلت أجد صعوبة في مغزى مساعي معالي وزير التجارة والصناعة للسيطرة على جمعية مدنية لحماية المستهلك، وللإشراف على جمعيات مهنية مدنية، وهو المكلف بإدارة أهم مرحلة في تاريخ الوطن، وهي إخراج البلاد من اقتصاد المصدر الواحد، إلى دولة متعددة الموارد، وأقرب لنموذج كوريا الجنوبية في الصناعة والتجارة.. والله المستعان.