يُنسب إلى عمر بن الخطاب أنه قال: (عش لدنياك كأنك تعيش أبداً، وعش لآخرتك كأنك تموت غداً) ؛ هذه العبارة الحكيمة تمثل المعادلة التي بسببها استطاع المسلمون أن يصلوا بالدعوة الإسلامية في ظرف قرن من الزمن إلى تخوم أوروبا غرباً، وإلى الهند والسند شرقاً، وأن يصل تعداد المسلمين اليوم إلى قرابة المليار ونصف المليار نسمة. وعندما اختلت هذه المعادلة، وأصبح المسلمون لا يكترثون بالدنيا، وإنما فقط بالآخرة، والعمل لها، تخلّفوا، وانقسموا إلى قسمين: قسم استهلاكي، تابع، خنوع، يتمتع بمنجزات الآخرين ومنتجاتهم في دنياه دون أن يكون له علاقة بإنتاجها؛ وقسم آخر همه فقط (الآخرة) والعمل لها والموت (المجاني) لبلوغها، تحت مسمّى الجهاد والتضحية بالنفس، والرغبة تحدوهم إلى الهروب من الدنيا، حتى بقتل النفس، بدعوى أن مصيرهم سيكون الجنة بعد الموت، والتمتع بنعيمها .
اختلال المعادلة، وطغيان ثقافة ما بعد الموت، على ثقافة الحياة، والعمل لها، هو في حقيقته نتيجة أظهرت على السطح العمليات الانتحارية، فالذي يقتل نفسه - ودعك من مسمّى الجهاد والعمليات الاستشهادية - هو بالضرورة إنسان ضعيف محبط، تمكن الفشل من أعماقه بعد أن سُدت الطرق الحياتية أمامه، فسيطر عليه الإحباط، فوجد أن الحل للهرب من ضغوط فشله الدنيوي أن ينتقل من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة، من خلال أن (يفجر) نفسه في من هزموه عملياً، بحجة أنهم (كفار) وهو فقط المسلم الحق، وجزاؤه بالضرورة أن يغفر له الله جل وعلا ذنوبه ويفوز بالجنة . ورغم أن الدين القيِّم قد حرّم قتل النفس نصاً وبوضوح في القرآن تحريماً مطلقاً بآية لا تقبل أي احتمال آخر، استطاع (تجار الموت) من بعض الفقهاء المعاصرين، أو من يزعمون أنهم فقهاء، أن يلتفوا على التحريم، ويتحايلوا عليه، ويدفعوا بعض الشباب المسلم السذج والمحبط إلى قتل أنفسهم، من خلال ترسيخ وهم في أعماقهم مؤداه أن قتلهم لأنفسهم سيعز الإسلام في الدنيا، وسيذل الكفار، وسيكون مصير (المنتحر) الجنة قطعاً.
إن الدعوى المتمثلة بالترغيب في الآخرة، والعمل لها، واعتبار (الدنيا) مجرد دار عبور لا قيمة لإعمارها، وتنمينها، ويجب الزهد فيها، كما هو (خطاب) بعض أساطين السلف، هو الذي رسخ في أعماق بعض المسلمين أنّ المسلم الحق لا يكترث بالدنيا ولا بنعيمها، وإنما فقط بالآخرة؛ فاختلت معادلة (عمر بن الخطاب) التي أشرت إليها في بداية هذا المقال.
إن الإسلام، وحضارة الإسلام، في زمن تألقها، وقوّتها، كانت تعتبر أنّ الإسلام ديدن حياة مثلما أنه مآل خلاص بعد الموت للإنسان؛ وهذا هو المعنى العميق لمقولة (الإسلام دين ودنيا)، فهو لا يَعنى فقط بمآل الإنسان بعد موته، وإنما بنعيمه ورفاهيته في حياته، والمسلم الحق هو من يستطيع أن (يوازن) بين (الحياة الدنيا والحياة الآخرة) فلا تطغى هذه على تلك.
ومن مظاهر اهتمامنا بالآخرة والعمل لها والزهد بالدنيا والعمل لها، ظاهرة بناء المساجد، وكأن أعمال البر تنحصر فيها، والانصراف عن أعمال الخير التي يستفيد منها المسلم في حياته الدنيوية؛ حتى أصبحت المساجد من الكثرة في الأحياء بحيث أن أغلبها لا يصلي فيها من المصلين إلا قدر صف أو صفين على أكثر تقدير؛ بينما هناك عزوف ملحوظ عن أعمال البر والخير الأخرى، كبناء المستشفيات، والتعليم، ودور الرعاية الاجتماعية، والمنشآت التي تعنى بالفقراء وإسكانهم، وكذلك المنشآت البحثية والعلمية، التي من شأنها حل مشاكل المسلم في حياته وليس بعد مماته؛ وهذه صورة من صور خلل التوازن في العمل بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة.
كل ما أريد أن أقوله هنا إننا يجب أن نُعلي من أهمية الحياة الدنيا، كي لا يطغى العمل للآخرة على العمل للدنيا وإنمائها كما كان يعمل المسلمون في زمن أمجادهم وتألق حضارتهم في السابق .
إلى اللقاء .