من المقولات العربية المأثورة والمتداولة، عبارة (لا يُقتل الذئب ولا تفنى الغنم)، هذه العبارة تضرب كمثل للدلالة على أنصاف الحلول إذا كان الحل الكامل متعذراً.. أحياناً ربما يكون هذا المثل معقولاً ومقبولاً إذا كنت لا تستطيع أن تقضي على الذئب لسبب أو لآخر، فتكتفي بإبعاده عن القطيع كي لا يُفني الغنم, ولكن حين يكون هذا المثل تملّصاً لمن يخشون الذئب ويتحاشون مواجهته، يصبح المثل مبررا للجبن، وهروبا مما يتطلبه الموقف من شجاعة، وقرارات صعبة يكتنفها كثير من المخاطر.
كذلك هناك مثل آخر، يكثر استخدامه، أو قل توظيفه، كمبرر لمن يخافون المواجهة ويبررون مواقفهم المتخاذلة في التصدي لبعض الأمور التي تواجههم، وهو (من الحكمة إمساك العصا من المنتصف لا من الطرف)، كدليل مجازي على الاتزان وعدم التصعيد في مواجهة موقف معين. وهذا المثل إذا تمعنت في استخداماته، وجدته غالباً ما يوظفه من يتحاشون المواجهة، ويلجؤون إلى أنصاف الحلول. العصا - كما يقول العرب - صنعت (لمن عصا)؛ وعندما تُمسكها من المنتصف لا من أحد أطرافها، فأنت تكتفي بهيبة العصا، وتتحاشى استعمالها كرادع لمن تجاوز وتمرد وعصا. ربما أن إمساكها من منتصفها، والاكتفاء بالتلويح بها، وبهيبتها، يُخيف الرعديد، ويهز العدو الجبان، فيرتدع؛ ولكن ماذا إذا كان من يتطلب المواجهة مقداما لا يخاف ولا يهاب، أو ثعلباً مراوغاً، يتحين الفرص، ويعرف من أين تؤتى الكتف ومتى؛ هل ستُجدي معه أن تمسك العصا من منتصفها، وتكتفي بالتلويح بها، أو تتخذ القرار الصعب؟
الملك عبد الله في مواجهة جماعة الإخوان في مصر وما أثاروه من عواصف هوجاء، اتخذ موقفاً صارماً وشجاعاً، وواجه نظامهم في مصر، حينما أعلنوا أن ثورتهم هناك ما انطلقت لتبقى في مهدها، وإنما لتشيد ما كانوا يطلقون عليه (دولة الخلافة)، ووطننا أحد أهدافهم المستقبلية، ولو أنه - أمد الله بقاؤه - أمسك العصا من منتصفها، أو تعامل معهم بمنطق (لا يُقتل الذئب ولا تفنى الغنم) وهادنهم أو تراخى معهم أو حسب حساب عملائهم وأنصارهم في الداخل، لربما كان ذلك تفريطا بمسؤولياته كقائد لهذه البلاد وكزعيم لدولة في حجم المملكة، وما إن ثار ملايين المصريين على نظام هذه الجماعة، وساندهم الجيش المصري، اتخذ موقفاً واضحاً وصريحاً منذ اللحظة الأولى، دون أي تردد، فكانت (برقيته التاريخية) للرئيس السيسي بُعيد تحرك الجيش، تحمل بالفعل موقفا لا يتخذه إلا العظماء الذين يقرؤون المآلات حق قراءتها ويتخذون حيالها المواقف الذي لا يتخذه إلا الأفذاذ الذين يغيرون مسار التاريخ، فكانت المملكة أول من ساند عملية التصحيح، ثم ألقى بثقله دبلوماسياً ومالياً لقطع الطريق على الانتهازيين، ومن حاولوا إجهاض عملية التصحيح داخل مصر وخارجها، فألجم الجميع، وحمى مصر وبلاده بل والمنطقة بأسرها، من أن تكون (سوريا ثانية)..
كثيرون كانوا يعتقدون أن الملك عبدالله ذهب بعيدا في نصرة الحركة التصحيحية في مصر، وخاطر بمواجهة القوى الغربية التي كانت تدعم جماعة الإخوان، أما الآن وبعد أن هدأت العواصف، وجنى المصريون أولا قطوف إقصائهم لهؤلاء المتأسلمين الانتهازيين، عرف الجميع من الذي كان لمواقفه الشجاعة، والحازمة، الفضل بعد الله في إخماد براكين هذه الثورات الهوجاء، التي ما إن تحل ببلاد، حتى تقلب عاليها على سافلها، وتنسف استقرارها وأمنها، وكل ما بنته طوال عقود..
ولم يكتف الملك عبدالله بإخماد حرائق هذه الجماعة المتسلقة، وإنما أصلح ما أفسدته، وتجلى ذلك في علاجه لأصعب الملفات وأكثرها تعقيدا، وهو ملف العلاقات القطرية المصرية، فتولاه بنفسه، وأرسل مبعوثه الخاص إلى القاهرة، وتابعه وذلل كل ما اعترضه من مصاعب حتى أعاد المياه بين قطر ومصر إلى مجاريها.
بقي أن أقول: ما كان يُسمى (الربيع العربي) حوله الملك عبدالله بقراراته الجريئة والحازمة، إلى انتصارات، دخل بها إلى التاريخ فارساً لا يشق له غبار ولا تهزم له راية.
إلى اللقاء .