* إذا كان هناك من الخلق من أنكر على أحمد شوقي (إمارة الشعر)، وإذا كان الناس قد انقسموا حول ذلك حتى الآن بين مؤيّد ومعترض، فإن هناك شاعراً عربياً واحداً قد أبدع وسَمَا به شعرُه، حتى عمّ الإعجاب به الآفاق، ذلكم هو أبو الطيب المتنبي، الذي أحسبه بحق (أمير شعراء) عصره، وربما تجاوزت به (إمارته) الشعرية حتى بلغت عصرَنا الحاضر! وما برح الخلق منذ عهده حتى الآن، يسْهرُ جرّاء بعض ما أبدعه شعراً ويختصم!
* * *
* سبب هذه المقدّمة القصيرة أنني كنت قبل أيام أطالع أوراقاً قديمة حين عثرت على نص أثير على نفسي كنت قد كتبته في لبنان ذات يوم من ذات عام، يتحدث عن المتنبي، بمناسبة احتفالية مسرحية شعرية رائعة أبدعها شعراً ولحناً الفنان اللبناني الشهير منصور الرحباني، وشارك في أداء أدوارها حشد كبير من نجوم المسرح الغنائي في لبنان، وقد أقيمت ذكرى له وتذكيراً به، رغم أنه قامة شعرية فارهة تتحدى النسيان!
* * *
* وحين غادرت مقر عرض المسرحية كنت مفعماً بالمشاعر، إعجاباً بالشاعر وشعره، وتقديراً للجهد المتميز الذي بذل في تنفيذ المسرحية، كتابةً وتمثيلاً وإخراجاً، وتمنيت لو أن المتذوِّقين لشعر ذلك العملاق في كل وطن عربي شاهدوا تلك المسرحية ليتعلّموا عن ذلك الشاعر ما لم يعلموه، وهو بحق مجْد للغته أدباً وإبداعاً، وفخر للناطقين بها بلاغة ونصاً أينما كانوا!
* * *
* وقد رسا بي قارب الإعجاب بذلك الشاعر والحدث الفني الذي اقترن باسمه، على ضفاف الكتابة، فرسمت بالحروف سطوراً أودعتها مشاعري حيال الحدث وصاحبه، واستأذن القارئ الكريم لطرح جزء مما كتبته عن المتنبي في حديث اليوم.
* * *
* قلت في ذلك المقال (مع شيء من التصرف):
* منذ ألف عام.. والخلق يسهرون جرّاه ويختصمون!
* ومنذ ألف عام.. والناس مفتونون بقوافيه شعراً ومشاعراً.
* ذلكم هو أبو الطيب المتنبي، الشاعر الفارس الذي نازعه (غلُّوُ) الحلم بالحكم والسلطة، فخسرهما معاً!
* مدح مَنْ مدح، فحلق به فوق هام السحب!
* وهجُا من هجا، فهوى به إلى حضيض الذل!
* * *
* كلّ شعره أو جله كان (قضية) لأنه هو نفسه.. كان (قضية)!
* كان يحلم بلا حدود، فصاغ شعراً خالداً بلا حدود!
* كان يحلم بالحكم، ولو على ولاية بحجم (الكف)!
* سعى إلى ذلك لدى صديقه وحميمه سيف الدولة (الحمداني) فلم ينل منه شيئاً، وحبّط مسعاه لتلك الغاية مثلما أحبطه الحاسدون له، والغيورون منه، والحاقدون عليه!
* * *
* ووفقاً للنص المسرحي، كان يعشقُ أختَ سيف الدولة (خولة) كما عشقته، وتمناها زوجاً كما تمنته، لكن ذلك كله ذهب مع الريح!
* عندئذ، قرَّر أن يهبط مصراً علّه يجد في بلاط أخشيدها كافور ما ضن به عليه سيف الدولة الحمداني!
* * *
* امتدح كافوراً وصعد به سلالم المجد لما وعده بحكم واحدة من ولاياته، وكنّاه بأبي المسك! ولما لم يَنَلْ ما وعده به، هجاه بقسوة، ثم فرّ صوب الكوفة متدثراً بظلام اللّيل، ويكمن له نفر من حساده يقودهم فاتك الأسدي، بنية القضاء عليه، وتسوّل له نفسه أن يغيّر وجهته صداً لكيدهم، لكن البعض من رفاقه ذكّره ببيته الشهير:
الخيلُ والليلُ والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ
فيتخلّى عن فكرة الهرب، ويقرَّر مواجهةَ خصومه، ويهم بمن همّ به في هجمة ضارية، لكن أعداءه كانوا أسرع وصولاً إليه وأشد بأساً، فيجهز عليه فاتكُ الأسدي، ويسدل الستار على المتنبي، الشاعر والفارس والعاشق، لكنه.. يظلّ بعد ذلك كله (قضية) تسكن قلعة الشعر وشعراً يفتن ألباب الناس قروناً!