أنا أؤمن إيمانا قاطعا بأن الدين هو الركيزة الأساسية القادرة على خلق منظومة اجتماعية مسالمة، مبنية على التمسك بالأخلاقيات والسلوكيات القويمة، لكنني أخشى أن يرتبط التدين بالمظهر أكثر من ارتباطه بالجوهر، فيفقد مضامينه الروحية بشيوع التدين الشكلي، ليتحول إلى مظهرية تتسم بسطحية منزوعة المعاني، فالإيمان الحقيقي ليس بالتمني، ولا بالتحلي، ولا بالأماني، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه الفعل والعمل وترك أثرا يرى، إنني أمقت التدين الشكلي والمهني في الأفعال والأقوال، بعيداً عن الفعل الجوهري، أحياناً أحس وكأننا نحلق في فضاءات العفة والطهارة والنزاهة، وننعم بالطمأنينة والهناء والصفاء والوئام، في الوقت الذي نسمع فيه زعيق مواكب الشباب وهي تنتهك نظام المرور جيئة وذهابا، حتى صارت مدننا تحتل المرتبة الأولى في سجلات المدن الدموية الأكثر صخبا وتعرضا للضجيج والحوادث، وفي الوقت الذي يوصينا رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) بالجار حتى كاد أن يورثه، نرى الصدود والجفاء بين الجيران، فكيف يمكن أن نكون الأكثر استقامة والأكثر انحرافا في آن واحد؟، وكيف يمكن أن نكون الأكثر حكمة والأكثر رعونة؟، والأكثر رحمة والأكثر نقمة؟، وكيف تجتمع الأضداد كلها فوق رؤوسنا الخاوية؟ من الواضح أن مجتمعنا يمر اليوم بحالة غير مسبوقة من انفصام الشخصية، وانفصال الدين في السلوك والتطبيق، ويعزى ذلك إلى غياب المعايير الأخلاقية العامة، التي أكدت عليها الأديان السماوية كلها، فضلا عن شيوع الغش والكذب والنفاق، بحيث صار الدين في كثير من الأحيان مختزلا في مجموعة من ممارسات وصولية، وإجراءات سطحية مفتعلة، يراد منها التزلف والتقرب لنيل المراتب، أو لتحقيق المكاسب، ويراد منها التبضع الدنيوي، أصبحنا نعيش في عصر يهتم فيه بعض الناس بمظهرهم لا بجوهرهم، فتراهم يتلاعبون بالشكليات، ووضع الأقنعة التنكرية لتغطية ملامحهم الحقيقية، ويتخذون ماكياج التدين والوقار الزائف كبطاقات ترانزيت لعبور بوابات النصب والاحتيال، أو لاستغلال سذاجة الناس وطيبتهم، تمهيدا لتحقيق مآربهم الدنيوية، ونيل المناصب والدرجات الرفيعة، وانحصرت أدوات تظاهرهم الشكلي بالظاهريات، والكلام المنمق، وإظهار الشدة والصلابة المفتعلة عند التعامل مع عامة الناس، والتمسك بالقشور إلى درجة المبالغة في استعراض صور نمطية منسوخة من قوالب كاريكاتيرية متناظرة، حتى صار من المألوف مشاهدة الكثير من هذهالنماذج المتخشبة، من الذين أساءوا للدين والتدين بمزايداتهم التمثيلية المعادة، يتسترون بالدين، ويتظاهرون بالورع والتقوى، ويستبطنون الكفر والفسوق والعصيان، فاستغلوا الدين وقودا لإشعال فتيل الصراعات السياسية، والاجتماعية، وتأجيج نيران الفتن الطائفية، واتخذوا الدين جسرا تكتيكيا ليعبروا من خلاله إلى مواقع التسلط، وليتبرقعوا ببرقع الإيمان المزيف وهم أبعد ما يكونون عن الدين وعن طاعة الله، تمظهروا بكل أنماط الخشوع السطحي، خلعوا المهابة المصطنعة على عناوين مرادهم وأمانيهم، تحصنوا خلف جدران الرياء وتلحفوا بردائه، استغلوه استغلالا بشعا في الترويج لأنفسهم وبضائعهم المغشوشة، إنني على يقين تام أن المتاجرة تحت غطاء الدين ليست اختراعا حديثا، بل هي قديمة قدم نشوء الأديان وتطورها في عصورها التاريخية المختلفة، فالطبيعة الاستغلالية التي تكبل الإنسان بالمادية هي طبيعة جشعة من شأنها أن تستفيد من كل فرصة في سبيل تحقيق مطامعها، فلا عجب أن نرى المتاجرة بالقيم الدينية وقد صارت اليوم هي الوسيلة الأسرع والأسهل لتحقيق النجومية الفاحشة، على حساب كثيراً من الأخلاق والمبادئ، بحيث امتطوا صهوة التدين السطحي، واتخذوا منه مطية لتحقيق مآربهم، أن أمثال هؤلاء لا يعرفون حقوقهم ولا حقوق غيرهم، وتكاد تنحصر صولاتهم الانتهازية في حدود أنشطتهم الوصولية المكشوفة، أنهم مجرد كومبارس في سيرك رمادي مزعج.