في حديث مع أحد رجال الأعمال من ذوي الثروات الضخمة في بلادنا حول قرار كل من (بل جيت) و(ورن بوفت) التبرع بمعظم ثروتهما لصالح الأعمال الخيرية في حياتهما، قال الثري بعفوية «كلاهما لا يخاف الفقر!!» فبادرته بسؤال عفوي «وهل تخشى الفقر أنت؟» سؤالي استثار عاطفته وصراحته أيضا فقال: «نعم»، ثم استطرد «الفقر كان حالي حتى بلغت العشرين، ولا أريد أن أعود لتلك الحال، لذا أقسم ثروتي ثلاثة أقسام الأول، لمعيشتي ومعيشة عائلتي وهذا عادة ما يكون من فائض أرباح أعمالي، والقسم الثاني، هو ما استثمره وأعرضه للمخاطر الاستثمارية، والقسم الثالث, وهو معظم مالي، أدخره كتأمين لليوم الأسود، فإن لم يأت وأتاني قدر الله فهو ورث يضمن حياة كريمة لعائلتي من بعدي»، تذكرت هذا الحوار مع رجل طواه الزمن بلحافه عندما قابلت أمس رجلاً في جزيرة من جزر المالديف، ودار حديث عن الأمن وعلاقته بالثروة، وقال هذه الرجل وهو من بلاد غربية «في بلادنا نسعى لجعل المواطن آمناً من خلال نظام اجتماعي عادل وصلب البناء بحيث لا يحتاج لتكديس ثروة تجعله يعتقد أنه محبوب في كل بلد يريد ثروته» حديثي مع الرجل توسع ليشمل النظرة الفلسفية لعلاقة الثروة بالأمن ودور الدولة وما استثار ذلك من أفكار الفلاسفة من هيجل حتى كارل ماركس.
الأمن هو حاجة أساسية في حياة الإنسان وقد صنفه الفيلسوف إبراهام ماسلو في قاعدة حاجات الإنسان بحيث يسبق الحاجة للعلاقات الاجتماعية والحاجة لتحقيق الذات، والأمن ليس محصوراً بالسلامة البدنية بل هو أهم في السلامة النفسية، ففي المجتمعات التي ترتقي فيها القيمة الذاتية للإنسان (Self-Esteem) يصبح الأمن النفسي في مرتبة تساوي الأمن البدني، وأقصد الأمن النفسي، هو الشعور بالطمأنينة تجاه العيش بكرامة وعدم الحاجة لاستجداء المعروف أو المساعدة من الآخرين، هذا النوع من الأمن هو ما توفره الثروة المختزنة في حال الحاجة لذلك، وقد أدركت العديد من الأنظمة الاجتماعية المتقدمة تلك الحاجة فأصبح الأمن الصحي والتأمين من العجز والفقر من أولوياتها التنموية، وبما تحقق تلك الأنظمة من طمأنينة لمواطنيها تجعلهم أكثر بذلك للمال في الاستثمار في أعمال ومرافق تحقق عوائد مالية وثروة مكتسبة من الجهد الإنتاجي الذي يبذله القادرون على العمل وهكذا يصبح المال بحد ذاته في دورة تحقيق القيمة بدلاً من أن يختزن فتتعطل قدرته على توليد القيمة.
في مجتمعنا مازال كثير من الأثرياء يعتمد على تخزين الثروة في تحقيق الأمن النفسي، فالثروة في بلادنا هي ما يحقق القيمة الاجتماعية وكل واحد من الأثرياء يمثل لعائلته وأقربائه ضماناً اجتماعياً بما يختزن من ثروة، فهي رهن الحاجة لمواجهة احتمالات تقلبات الحياة، وهؤلاء الأثرياء حديثو عهد بمعارف صالت بأحوالهم جولات الحياة، فاصبحوا متسولين لدى معارفهم، ومكسورين يبحثون عن وسيلة لتسديد ديون تراكمت وعسر عليهم إيفائها, فالنظام الاجتماعي لدينا صارم في معاقبة الفشل. مع أن الفشل محتمل بمثل احتمال النجاح.
حتى نماثل المجتمعات المتحضرة في تقدمها علينا تغيير الكثير مما اعتدنا عليه، علينا أولاً تغيير مفهومنا تجاه المسؤولية الفردية تجاه تقلبات الحياة فكثير من المخفقين مالياً أخفقوا بمؤثرات اجتماعية واقتصادية ليس لهم عليها سلطان، لذا على الدولة أن تسن نظاماً يحد المسؤولية تجاه الإفلاس بالتصفية بقطعية زمنية، بحيث يستطيع المفلس أن يعود بعد زمن لبناء حياة جديدة بلا قيود وتبعات وديون، وعلى الدولة أن تضع نظاماً أكثر شمولية من نظام الضمان الاجتماعي الذي يجب أن يكون نظاماً للحماية من الفقر، وعلى الدولة أن تشعر المواطن الثري أن حاجته لخزن المال أقل قيمة من رغبته في بذل الثروة في تمكين التنمية الاجتماعية والنشاطات الخيرية. وإذا كنا نريد أن نكون شعباً آمناً فعلينا الاعتماد على دولة قوية عادلة راعية في كل جانب من جوانب الحياة بحيث لا يشعر المواطن أن هناك مؤسسات صحية مقصورة على فئة وأن حاجته للمال هي حاجة للأمن.