الحمد لله الذي وفَّق من شاء من عباده؛ فعرفوا الحق واتبعوه؛ وامتثلوا أمر الله فلم يعصوه، وخذل من شاء بحكمته؛ فعميت قلوبهم وبصائرهم، ولا راد لما أراده الله وقضاه، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله،
وأخشى الخلق لله وأقومهم بطاعة ربه، وعلى آله وصحابته، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن النعمان بن بشير بن ثعلبة بن سعد صحابي جليل القدر، أنصاري خزرجي، من صغار الصحابة؛ إذ وُلد قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثماني سنين وسبعة أشهر، وقيل: بست سنين. والأول أصح.
قال ابن الزبير: النعمان أكبر مني بستة أشهر، ومعلوم أن عبد الله بن الزبير هو أول مولود وُلد للمهاجرين بالمدينة، والنعمان هو أول مولود للأنصار بعد الهجرة، في قول له، ولأبويه صحبة. يكنى بأبي عبد الله، وخاله عبدالله بن رواحة؛ إذ إن أمه عمرة بنت رواحة، الأنصارية الخزرجية (أسد الغابة 5: 226).
لكن الذهبي اختلف مع غيره كابن الأثير في اسم جده، فقال: النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة، الأمير العالم، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن صاحبه، أبو عبد الله ويقال: أبو محمد الأنصاري، الخزرجي. وولد النعمان سنة اثنتين، وسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وعد من الصحابة الصبيان باتفاق.
مسنده مائة وأربعة عشر حديثاً، اتفقا له على خمسة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بأربعة. شهد أبوه بدراً. قال البخاري: وُلد عام الهجرة، وكان من أمراء معاوية، فولاه الكوفة مدة، ثم ولي قضاء دمشق بعد فضالة، ثم ولي إمرة حمص. حدث عنه ابنه محمد والشعبي وحميد بن عبد الرحمن الزهري، وأبو سلام ممطور، وسماك بن حرب، وسالم بن أبي الجعد، وأبو قلابة (سير أعلام النبلاء 3: 411-412).
وقد فاقت شهرته الآفاق لمكانته وعلمه وقدرته الخطابية. وإن سيرة حياته وأخباره قد وردت في أكثر من ثلاثين مصدراً. وقد أجمل سيرته الذاتية الزركلي. ومما قال: النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري، أبو عبد الله، أمير، خطيب، شاعر، من أجلاء الصحابة، من أهل المدينة. له (124) حديثاً. وجّهته نائلة زوجة عثمان بقميص عثمان إلى معاوية، فنزل الشام. وشهد صفين مع معاوية. وولي القضاء بدمشق بعد فضالة بن عبيد سنة 53 هـ، وولي اليمن لمعاوية، ثم استعمله على الكوفة تسعة أشهر، وعزله وولاه حمص، واستمر فيها إلى أن مات يزيد بن معاوية، فبايع النعمان ابن الزبير. وتمرد أهل حمص، فخرج هارباً، فاتبعه خالد بن خلي الكلاعي فقتله. وهو أول مولود وُلد في الأنصار بعد الهجرة.
قال ابن حزم: افتتح مروان دولته بقتله، وسيق إليه رأسه من حمص. وقيل: قتل يوم مرج راهط. قال سماك بن حرب: كان من أخطب من سمعت. له ديوان شعر مطبوع، وكانت ذريته في المدينة وبغداد، قتل عام 65هـ (الإعلام 9: 4)، وابن الأثير يرى أن قتله عام 64هـ في ذي الحجة، بعد موقعة مرج راهط (أسد الغابة 5: 328).
وفي ترجمة المعري قال ابن خلكان: والمعري (بفتح الميم والعين المهملة وتشديد الراء) وهذه النسبة إلى معرة النعمان، وهي بلدة صغيرة بالشام بالقرب من حماة، وشيزر وهي منسوبة إلى النعمان بن بشير رضي الله عنه، فإنه شهد تديرها، وقيل مات فيها، وله ولد فدفنه فيها، فنسبت إليه (وفيات الأعيان: 116).
وكان كريماً جواداً؛ فقد حدث الهيثم بن عدي، فقَالَ: لما عزل معاوية النعمان بن بشير عن الكوفة، وولاه حمص، وفد عَلَيْهِ أعشى همدان، قَالَ: ما أقدمك أبا المصبح؟ قَالَ: جئت لتصلني، وتحفظ قرابتي، وتقضي ديني، قَالَ: فأطرق النعمان ثُمَّ رفع رأسه، ثُمَّ قَالَ: والله ما شيء، ثُمَّ قَالَ: هه، كأنه ذكر شيئاً، فقام فصعد المنبر، فقال: يا أهل حمص، وهم يومئذ فِي الديوان عشرون ألفاً، فقال: هَذَا ابن عم لكم من أهل القرآن والشرف، قدم عليكم يسترفدكم، فما ترون فِيهِ؟ قالوا: أصلح الله الأمير، احتكم لَهُ، فأبى عليهم، قالوا: فإنا قد حكمنا لَهُ عَلَى أنفسنا من كل رجل فِي العطاء بدينارين دينارين، فجعلها لَهُ من بيت المال، فجعل لَهُ أربعين ألف دينار، فقبضها، ثُمَّ أنشأ يقول:
فلم أر للحاجات عند انكماشها
كنعمان، أعني ذا الندى ابن بشير
إذا قَالَ أوفى بالمقال، ولم يكن
كمدل إلى الأقوام حبل غرور
متى أكفر النعمان لَمْ أك شاكرا
ما خير من لا يقتدي بشكور
(أسد الغابة 5: 321).
وقد جاء في صحيح البخاري - رحمه الله - عن حصين، عن عامر، قال: سمعت النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: «أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟»، قال: لا، قال: «فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم». قال: فرجع فرد عطيته. [أخرجه البخاري برقم 2587].
وقد ذكر مما يستفاد من هذا الحديث: أنه احتج به من أوجب التسوية في عطية الأولاد، وبه صرح البخاري، وهو قول طاووس والثوري وأحمد وإسحاق، كما ذكرناه، وقال به بعض المالكية. ثم المشهور عند هؤلاء: أنها باطلة، وعن أحمد: يصح ويجب عليه أن يرجع، وعنه: يجوز التفاضل إن كان له سبب، كاحتياج الولد لزمانته أو دينه أو نحو ذلك، وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبة، ثم اختلفوا في صفة التسوية، فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض الشافعية وبعض المالكية: العدل أن يعطي الذكر حظين كالميراث، وقال غيرهم: لا يفرق بين الذكر والأنثى.
ولكن عمل الخليفتين أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على عدم التسوية قرينة ظاهرة على أن يعطى كالميراث، فقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت إن أبا بكر الصديق نحلها جداد عشرين وسقاً من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما من أحد من الناس أحب إلي غنى بعدي منك، ولا أعز علي فقراً بعدي منك، وإني كنت نحلتك جداد عشرين وسقاً، فلو كنت جددته وأحرزته لكان لك، وإنما هو اليوم مال الوارث، وإنما هما أخواك وأختاك، فاقتسموه على بيان كتاب الله تعالى. فقالت عائشة: والله يا أبت لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماء، فمن الأخرى؟ فقال: ذو بطن بنت خارجة، أراها جارية (عمدة القارئ 13: 145-47).
وقد اعتبره الكناني من فقهاء الصحابة، واستشهد به في معجم فقه السلف مرات عدة، كما كان موضع عناية من ابن قدامة في كتابه الفقهي الشامل المغني، وأورد له ما يقرب من ثلاثين مسألة، كلها شواهد فقهية ذات دلالة في مجملها.
ففي تحديد غسل الرجلين على الكعبين في الوضوء توضيح إلى حد الكعب ومكانه في كل رجل: بمنتهى الساق إلى القدم، وليس ما حكي عن محمد بن الحسن أنه قال: الكعبان مشطا القدم، وهو معقد الشراك من النعل. ودليل ذلك ما أخرجه أبو داود - رحمه الله - عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: كان أحدنا يلزق كعبه بكعب صاحبه في الصلاة، ومنكبه بمنكب صاحبه. [أخرجه برقم 662] رواه الخلال أيضاً، وقاله البخاري.
كما روي أن قريشاً كانت ترمي كعبي رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه حتى تدميها، ومشط القدم أمامه (المغني 1: 189).
ومن حديث جبريل عندما جاء للرسول يعلم الصحابة أمر دينهم، وبعدما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين في أول الوقت، وفي آخره، وقال يا محمد الصلاة بين هذين الوقتين، حدد الفقهاء لكل وقت صلاة مستدلين: بما فقهه الصحابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وقد جاء في وقت العشاء بأنه إذا غاب الشفق وهو الحمرة في السفر، وفي الحضر البياض؛ لأن في الحضر قد تنزل الحمرة، فتواريها الجدران فيظن أنها قد غابت فإذا غاب البياض فقد تيقن، ووجبت العشاء الآخرة إلى ثلث الليل، واستدلوا على هذا القول بأقوال للصحابة: منها قول النعمان بشير رضي الله عنهما: أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة (صلاة العشاء). كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليها لسقوط القمر لثالثه. رواه أبو داود، أخرجه برقم 419، (المغني 2: 25-26). وعن تعديل الصفوف وأهمية العناية بذلك؛ لأنه من تمام الصلاة، حيث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من بعده يشددون في ذلك، فقد ضرب عمر قدم أبي عثمان النهدي لإقامة الصف في الصلاة فيمن ضرب، وكان عثمان يقول: إذا قامت الصلاة فاعدلوا الصفوف، وحادّوا بالمناكب، فإن اعتدال الصف من تمام الصلاة، ثم لا يكبر حتى يأتيه رجال قد وكلهم بتسوية الصفوف فيخبرون أنها استوت فيكبر.