ولدت سنة 68 قبل الهجرة من بيت مجد وسؤدد ورياسة، فنشأت على التخلق بالأخلاق الحميدة واتصفت بالحزم والعقل والعفة حتى دعاها قومها في الجاهلية الطاهرة. وكانت خديجة رضي الله عنها تاجرة ذات مال، تستأجر الرجال في مالها وتدفع لهم المال مضاربة فيكون عيرها كعامة عير قريش.
وبلغها عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدقه وعظم أمانته وكرم أخلاقه وقول أبي طالب لابن أخيه صلى الله عليه وسلم: أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا سنون منكرة وليس لنا مادة ولا تجارة وهذه خديجة تبعث رجالا من قومك يتجرون في مالها ويصيبون منافع فلو جئتها لفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من طهارتك...
فبعثت إليه صلى الله علي وسلم خديجة رضي الله عنها فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له ميسرة. فقبل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وخرج في مالها ومعه غلامها ميسرة حتى قدم الشام، فباع سلعته التي خرج بها واشترى ما أراد. ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة. فربحت تجارته ضعف ما كانت تربح، فأضعفت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ضعف ما سمت.
ولما أخبرها غلامها ميسرة مما رأى من أخلاقه صلى الله عليه وسلم، بعثت إليه صلى الله عليه وسلم فقالت: يا ابن عم، إني رغبت فيك لقرابتك ولسلطتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك ثم عرضت عليه نفسها، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لأعمامه. فخرج معه حمزة بن عبد المطلب حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه، فقال وهو ثمل: هو الفحل لا يقرع أنفه. وفي رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خطب خديجة ذكر ذلك لورقة بن نوفل فقال: محمد بن عبد الله يخطب خديجة بنت خويلد الفحل لا يُقدع أنفه، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصدقها عشرين بكرة، ولها من العمر أربعون سنة ولرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس وعشرين سنة. فكانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت وولدت له صلى الله عليه وسلم: القاسم وعبد الله وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين.
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، كانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدق محمداً صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربه وآزره على أمره، فكان صلى الله عليه وسلم لا يسمع من المشركين شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له إلا فرج الله بخديجة رضي الله عنها التي كانت تثبته على دعوته وتخفف عنه وتهون عليه ما يلقى من قومه.
روت عائشة رضي الله عنها: أن أول ما بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني وغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}. فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة رضي الله عنها وأخبرها بالخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت له: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد ابن عبد العزى وهو ابن عم خديجة وكان امرأً قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن العم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به ألا وعودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزرا، ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي.
ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم وخديجة يصليان سراً ما شاء الله. فقد روى عفيف الكندي فقال: جئت في الجاهلية إلى مكة وأنا أريد أن أبتاع لأهلي من ثيابها وعطرها فنزلت على العباس بن عبدالمطلب، قال: فأنا عنده، وأنا أنظر إلى الكعبة وقد حلقت الشمس فارتفعت إذ أقبل شاب حتى دنا من الكعبة فرفع رأسه إلى السماء فنظر ثم استقبل الكعبة قائما مستقبلها فما لبث أن جاء غلام حتى قام عن يمينه ثم لم يلبث إلا يسيراً حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما ثم ركع الشاب, فركع الغلام وركعت المرأة ثم رفع الشاب رأسه ورفع الغلام رأسه ثم رفعت المرأة رأسها ثم خر الشاب ساجدا وخر الغلام ساجدا وخرت المرأة ساجدة، قال: فقلت يا عباس إني أرى أمرا عظيما، فقال العباس: أمر عظيم، هل تدري من هذا الشاب؟ قلت: لا. ما أدري، فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي، وهل تدري من هذه؟ قلت: لا أدري، فقال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي هذا، إن ابن أخي هذا الذي ترى حدثنا أن ربه رب السماوات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه، والله ما علمت على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة. قال عفيف: فتمنيت بعد أن كنت رابعهم.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلها ويقدرها حق قدرها فكان صلى الله عليه وسلم لا يخالفها قبل أن ينزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي، ثم كان يذكرها بعد موتها كثيرا ولم يسأم من الثناء عليها حتى غارت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد عوضك الله من كبيرة السن، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامها غضبا عظيما حتى أسقطت في جلدها وقالت في نفسها: اللهم إن أذهبت غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم عني لم أعد أذكرها بسوء ما بقيت. وقالت عائشة رضي الله عنها ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم كما غرت على خديجة وما رأيتها ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها وربما ذبح شاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له كأنه لم يكن في الدنيا إلا خديجة، فيقول: إنها كانت لي وكان لي منها ولد.
وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام فأدركتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزا فقد أبدلك الله خيرا منها، فغضب صلى الله عليه وسلم حتى اهتز مقدم شعره من الغضب ثم قال: لا والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني في مالها إذ حرمني الناس, ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني النساء، فقالت عائشة رضي الله عنها: فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبدا.
وتوفيت خديجة أم المؤمنين ساعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيمن في بث دعوة الإسلام ونشر تعاليمه سنة 3 قبل الهجرة ولها من العمر خمس وستين سنة. ولما حضرتها الوفاة دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تكرهين ما أرى منك وقد جعل الله في الكره خيرا. وعند دفنها نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرتها وأدخلها القبر بيديه في الحجون. فكانت وفاتها مصيبة عظيمة تبعتها مصائب وكوارث تحملها النبي صلى الله عليه وسلم برباطة جأش وصبر على المكاره ورضاء من الحق عز وجل.