«الموت لا يوجع الموتى.. الموت يوجع الأحياء»، يقول الشاعر.. ونحن موجوعون بفقد ملِك الإنسانية عبد الله بن عبد العزيز، الذي مَلَكَ القلوب بإنسانيته العفوية دون تكلف، وأَسَرَ الأفئدة بروحه الصافية دون رتوش.. وأذهل العقول بقراراته الحكيمة وإصلاحاته الجريئة، فترسخت المملكة كواحة سلام ورخاء..
«أولئك ملوكنا فجئني بمثلهم».. فمن مثلك أيها الملك الجليل، وقد رحلت عنا إلى الرفيق الأعلى؟ لكن كما قال الشاعر: «لا بد من موت مقيم فانتظر أبأرض قومك أم بأخرى المضجعُ». ونحن نقول وداعاً يا ملك القلوب، نقول أهلاً بملك الثقافة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، حفظه الله، فهو خير عزائنا لمليكنا الراحل، لأنه الحاكم المحنك ملك العلم، المثقف المتبحر في الأدب والتاريخ وصديق الصحفيين والمثقفين، صاحب الخبرة العريقة في الحُكم والحِكمة العميقة في السياسة، والمتابع لتفاصيل مجريات الأمور الاجتماعية والمعيشية.. هذا ما نعرفه عنه قبل أن يكون ملكاً.
لذا، حالما صار ملكاً بدأ حكمه بإصدار قرارات تاريخية حاسمة في غضون ساعات أثلجت الصدر وأزاحت القلق ونسفت كافة الإشاعات أو التكهنات التي أثقلتنا بها كل يوم وكالات الأنباء العالمية والصحف الأجنبية منذ دخول الملك عبد الله المستشفى.. صحيفة تقول أزمة في انتقال الحكم، وأخرى تقول صراع فيه، وثالثة تقول آلية حكم غامضة، وهلم جرا.. كلها ثبت أنها تخرصات عمياء كشفتها القرارات الحاسمة للملك سلمان التي وطدت أركان الحكم السعودي واستقراره، وانتقاله بسلاسة نادرة، بمبايعة الأمير الأمين مقرن بن عبد العزيز ولياً للعهد.. ومبايعة الأمير الفذ محمد بن نايف ولياً لولي العهد ليكون أول حفيد للملك المؤسس، غفر الله له، وأكبر عامل ثقة وطمأنينة في استقرار النظام مستقبلاً، وتعيين الأمير الشاب الحيوي محمد بن سلمان وزيراً للدفاع ودرعنا الواقي..
وإذا كان أول أيام الملك سلمان بالحكم مليئة بالقرارات الحكيمة الشجاعة على المستوى العام لنظام الدولة، فالمتوقع قريباً التوجه إلى المستوى التفصيلي، فالمعروف عن الملك سلمان عندما كان أميراً للرياض أنه كان يتابع أدق التفاصيل عن حياة الناس ويعالجها، ولديه، سلمه الله، ذاكرة حاذقة بهم ويتابع مقالات الصحف ويرد عليها بقلمه رغم انشغالاته، بل يصحح بعضها في التاريخ أو الأدب لمؤرخين وأدباء، حتى أنه لو لم يكن حاكماً لكان أديباً أو مؤرخاً. لذا سيكون رفع مستوى المعيشة للمواطنين في الوظائف والإسكان والصحة والتعليم في سلم أولوياته.
المتوقع أيضاً من حكمة مليكنا سلمان أن يرسم السياسة الخارجية الهادئة التي عُرفت بها المملكة، دبلوماسية تعمل بتأثير قوي لكن دون ضوضاء. سياسة لا تتدخل في شؤون الآخرين مباشرة، ولكن تدعم بهدوء ما يتوافق مع مصالح المملكة، وتتجنب -قدر الإمكان- الاصطدام المباشر مع الآخرين.. دبلوماسية ناعمة، لكن قوية، تستخدم النفوذ الاقتصادي للسعودية ومكانتها السياسية بالطريقة الدبلوماسية السعودية المعتادة: قليل من الكلام والإعلام وكثير من الفاعلية والتأثير.. وهي في الوقت ذاته سياسة حازمة لكل من يتعرض لأمن المملكة..
أما الآن فنحن نشعر بحزن عظيم على فقدنا حبيبنا الغالي الملك عبد الله، رغم أن البلاد آمنة مطمئنة فلا حالة استنفار ولا طوارئ أمنية بفقده مما يؤكد رسوخ الاستقرار والأمن والأمان التي تزخر بها بلادنا، وستظل بإذنه تعالى. فمملكتنا دولة تقوم على أسس متينة وتخطيط مدروس ومتأنٍ ومؤسسات قوية، في مقدمتها هيئة البيعة التي ظهرت أهميتها العظمى خلال الأيام الأخيرة المنصرمة بلا استحواذ فردي بالقرار..
سألتني، ببراءة، ابنتي الصغيرة ذات الأعوام العشرة: هل سيغير الملك الجديد الأنظمة؟ هل ستتغير عطلة الأسبوع؟ هل ستتغير مواد المدرسة؟ هل ستتغير المدارس؟ هل إذا كبرت سأقود السيارة مثلك يا أبي؟.. هل سيتغير كل شيء؟ قلت: يا بنتي أسئلتك هذه كثيرة، وهذا هو اليوم الأول لملكنا الجديد.. لن تتغير الأشياء بل ستتطور بهدوء، فالملك سلمان حاكم محنك سيطور أشياء كثيرة بعون الله..