من الكلمات التاريخية لخادم الحرمين الشريفين المرحوم الملك عبد الله بن عبد العزيز: «إننا قادة الأمة العربية مسؤولون جميعاً عن الوهن الذي أصاب وحدة موقفنا وعن الضعف الذي هدد تضامننا، أقول هذا ولا أستثني أحداً منا، لقد مضى الذي مضى واليوم أناشدكم بالله - جل جلاله - ثم باسم الشهداء من أطفالنا ونسائنا وشيوخنا في غزة، باسم الدم المسفوح ظلما وعدوانا على أرضنا في فلسطين المحتلة الغالية، باسم الكرامة والإباء، باسم شعوبنا التي تمكن منها اليأس، أناشدكم ونفسي أن نكون أكبر من جراحنا وأن نسمو على خلافاتنا وأن نهزم ظنون أعدائنا بنا ونقف موقفا مشرفا يذكرنا به التاريخ وتفخر به أمتنا.. في مؤتمر القمة العربية الاقتصادية والتنموية والاجتماعية» ومن كلماته التاريخية: «إن المملكة العربية السعودية تدرك الدور المحوري والمهم الذي تؤديه في الاقتصاد العالمي، ومن ذلك العمل على استقرار سوق البترول الدولية، ومن هذا المنطلق قامت سياسة المملكة البترولية على أسس متوازنة، تأخذ في الاعتبار مصالح الدول المنتجة والمستهلكة، ومن أجل ذلك تحملت المملكة كثيرا من التضحيات، ومنها الاحتفاظ بطاقة إنتاجية إضافية مكلفة تصل إلى حوالي (2) مليون برميل يومياً، حرصا منها على نمو الاقتصاد العالمي بصورة تحفظ مصالح جميع الأطراف.. من كلمته في قمة مجموعة العشرين الاقتصادية» ومن كلماته المشهودة: «جئتكم من مهوى قلوب المسلمين، من بلاد الحرمين الشريفين حاملا معي رسالة من الأمة الإسلامية، ممثلة في علمائها ومفكريها الذين اجتمعوا مؤخرا في رحاب بيت الله الحرام، رسالة تعلن أن الإسلام هو دين الاعتدال والوسطية والتسامح، رسالة تدعو إلى الحوار البنّاء بين أتباع الأديان، رسالة تبشر الإِنسانية بفتح صفحة جديدة يحل فيها الوئام - بإذن الله - محل الصراع.. خلال المؤتمر العالمي للحوار ومن كلماته التي لا يمكن أن تُنسى: «في هذه الساعة الحرجة يجب أن يرتفع المجتمع الدولي إلى مستوى المسؤولية، وأن يكون التعاون هو حجر الأساس في أي مجهود، وأن نكون جميعاً في نظرتنا إلى الحاضر والمستقبل أصحاب رؤية إِنسانية عميقة شاملة تتحرر من الأنانية الضيقة وتسمو إلى آفاق الإخاء والتكافل وفي هذا وحده سر النجاح.. في افتتاح أعمال اجتماع جدة للطاقة...... وإنكم تجتمعون اليوم لتقولوا للعالم من حولنا، وباعتزاز أكرمنا الله به، إننا صوت عدل، وقيم إِنسانية أخلاقية، وإننا صوت تعيش وحوار عاقل وعادل، صوت حكمة وموعظة وجدال بالتي هي أحسن، تلبية لقوله تعالى {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وإنا - إن شاء الله - لفاعلون.. في افتتاح المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار» ومن كلماته أيضاً: «إن عصرنا هذا توسع في نقل الأفكار بانفتاح لم تعهده الإِنسانية في تاريخها فهل نجفل منها؟ أم نفتح بيتنا التاريخي، وميراثنا العظيم لنرى دورنا الكريم وشراكتنا الإِنسانية في أروع القيم والمفاهيم والمسؤوليات وهي تتصدى لدورها الأخلاقي بثوابت دينها الإسلامي.... في مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني.... إن العالم المسلم في مختبره، والجندي المدافع عن وطنه، والواعظ الذي يدعو إلى الاعتدال والموظف النزيه الذي يرفض الإغراءات، والقاضي العادل المنصف، والعامل الذي يعمل بيديه ويتقن عمله والطالب الذي يثابر على دراسته وتحصيله، كل هؤلاء يخدمون الإسلام وباسمهم في كل مكان من ديار المسلمين يسرني قبول هذا التكريم وأهديه لهم جميعا.. خلال تكريمه للفائزين بجائزة الملك فيصل العالمية».
نعم إنه الملك المحبوب عند الخاص والعام الملك عبد الله، الذي ستظل شخصيته له سجية الليالي، ملهمة للكثير، موحية بالكثير، لأنّها معدن لا ينفد بعد أمد من الاستمداد قصير، ومنبع لا ينضب على كثرة الاستسقاء والارتواء، ومنار استوى في الاستمتاع بإشعاعه الخاص والعام من مرتادي حاله وأكنافه، والأصفياء من ملازميه وأصحابه، في بأسائه وسرائه وضرائه..
ولقد أحس الجميع يوم نعاه إلينا ناعيه بأن الوطن العربي بأسره فقد باختفاء الملك عبد الله - رحمه الله - والتحاقه بالرفيق الأعلى، أحد أبناء المملكة العربية السعودية الذين أسدوا إلى بلدهم ووطنهم العربي والإسلامي أعز وأنفس ما يسديه ابن بار، وضغطوا على التاريخ ورسموا على مسيله ومجراه طابع التأثير الذي يحدث التغيير، وينتهي به المطاف إلى التبديل والتحويل، طواه الردى عنا والأمل معقود بامتداد حبل حياته، وحاجة الوطن ما زالت ماسة إلى وجيه رأيه وصائب نظره وجميل تأتيه، وحميد مسلكه ومسعاه {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً}، (إنا لله وإنا إليه راجعون)؛ ومنذ القديم قيل: كل عظيم زعيم أثر في المجتمع الذي يعيش فيه يبتدئ تأثيره في المحيط الضيق ثم يتسع رويدا رويدا حتى يشمل أمصارا وآفاقا أخرى غير التي ظهر فيها، وبقدر اتساع تأثيراته وشمولها الأرجاء البعيدة النائية، بقدر ما تعظم عظمته وتسمو منزلته ويعلو مقامه، وهكذا تبرز عظمة هذا الرجل بمآثره وأبعاده الذي رفع راية العمل حتى ترامت أخباره إلى الأقطار النائية، وعرف في مشارق الأرض ومغاربها بخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، وعظمت شهرته والتمس الجميع لديه الملاذ مثلما التمسه فلول الأندلسيين في محنتهم الفاجعة:
جادك الغيث إذا الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
في الكرى أو خلسة المختلس
فهو بحق من بين أولئك الذين ناضلوا عن أصالة بلدهم ووطنهم ووحدة لواء العروبة والإسلام، وسهروا على إرهاف وعي الخاص والعام وإزاحة رواسب ليالي المحنة والمرهقة بصراع القوى ومعترك المذاهب وصدام التيارات، ويظلون في موقعهم من ميدان الجهاد، حتى إذا توفوا بقوا أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فمثله وإياه كما قال الراثي:
جلت رزيئته فعم مصابه
فالناس فيه كلهم مأجور
والناس مأتمهم عليه واحد
في كل جار رنة وزفير
ردت صنائعه عليه حياته
فكأنه من نشرها منشور
سيثنى عليك لسان من لم توله
خيرا لأنك بالثناء جدير
ومبايعة الأمير سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - ملكا للبلاد وخادما للحرمين الشريفين دليل على ثقة واستمرارية بيت الحكمة والحكم السعودي، ففي الوقت الذي تتعرض فيه العديد من دول العالم إلى فقدان كامل الثقة بين الحاكم والشعب (حتى في الدول الغربية) بدت السعودية أكثر استقرارا ورسوخا وتثبيتا لدعائم الأمن والأمان.
وكان قد حصل لي شرف استقباله لي لما كان أميرا على الرياض وأنا أشارك في ملتقى فكري، واستقبلني في مكتبه العامر ورأيت بأم عيني كيف أن الأمير سلمان يمتلك قدرة لا توصف في الولوج إلى قلب من أمامه، ويعود ذلك إلى تطبيقه قاعدة الاستماع قبل إبداء الرأي، فهو يحسن الإصغاء قبل الكلام ثم التسلل إلى قلب متحدثه بسهولة؛ ثم إن سمو الأمير سلمان رجل مطلع ومجتهد، وهو قارئ نهم لديه مكتبة كبيرة ومتنوعة، ويبهرك عندما يتحدث معك لسعة علمه وكثرة اطلاعه وصواب تفكيره.. فهي المسيرة التي تستنير كل وقت من أوقات الالتقاء، وكل خطوة من خطوات الاستبصار والاستجلاء والتحليل والتقييم، بنور جديد ويقين وهاج، فشخصية الملك سلمان شخصية جذابة أخاذة، ثرية وسخية، قائمة على أصول لا تحور ولا تحول، فهو مؤمن أقوى وأصلب ما يكون الإيمان، بأمثل المبادئ وأسمى القيم، ثاقب البصر ناقد الإدراك لمتعدد التيارات والمذاهب، طريفها وتليدها، وكثرة علمه وسعة اطلاعه تجعله في شعوره وتفكيره ونضاله وكفاحه وإرشاده وتوجيهه وتعريفه وتثقيفه صبا عميدا بالأصالة والأثالة، لا يحيد عن قصدهما، ولا يجور ولا يستسيغ من القديم والحديث والغريب والجليب إلا ما يتطلب ويتلاءم وما يؤمن به من أصالة العقيدة وأصالة الالتزام وأصالة المناهج.
وكم كانت غبطتي أن حكى لي سمو الأمير سلمان عن علاقة المملكة العربية السعودية بالمملكة المغربية الشريفة، وقصته الشخصية مع مدينة فاس في ستينيات القرن الماضي، عندما كان يجول في أزقة مدينة فاس العتيقة وإذا بعائلة فاسية تفتح للمسؤولين المغاربة ولسمو الأمير سلمان وهي لا تعرف أحدا منهم، وتستقبلهم بالصياح وكؤوس من الشاي في بيت متواضع جدا، وما هاته القصة الفريدة إلا دليل على تاريخ أواصر الأخوة والمحبة الدائمة بين شعبي المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية أياً كان المنصب والمقام، لذا أحسسنا نحن المغاربة كما أحس المواطنون السعوديون بأننا جميعا فقدنا بوفاة الملك عبد الله والتحاقه بالرفيق الأعلى أحد أبناء الوطن العربي الذين قدموا إلى البلاد والعباد أعز وأنفس ما يسديه ابن بار؛ وأحسسنا بمبايعة سمو الأمير سلمان ملكا للبلاد بفرحة وغبطة لأنه رجل المرحلة الذي يجيد السياسة المفعمة بأسمى مقاصدها وتجلياتها واستشرافها، وهو رجل العلم والعمل، لذلك شاع ذكره في الشرق والغرب وجرى على كل لسان خاصة أن السعودية أضحت أكثر من أي وقت مضى باتت عليها مسؤوليات كبيرة تتعلق باستقرار وأمن المنطقة في مرحلة ساخنة من التاريخ المعاصر، وأنا على يقين أن الملك سلمان سيؤدي الأمانة على أفضل نهج وسيبلغ الرسالة على أفضل منهاج {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفي بِاللَّهِ حَسِيباً}.