كنا في بداية الثمانينيات الميلادية، وكنت لازلت مراهقا، أعمل محررا في مجلة اقرأ، عندما وصلتني مع رئيس التحرير الدكتور عبدالله مناع دعوة لحضور مناورات الحرس الوطني في خشم العان.
انتظرنا في صالة كبار الشخصيات، بمطار الرياض القديم، مع المدعوين من الإعلاميين، وكان منهم الأساتذة الكبار خالد المالك (الجزيرة) وتركي السديري (الرياض) وأحمد محمود (المدينة) وهاشم عبده هاشم (عكاظ) وفهد العرابي الحارثي (اليمامة) وخليل الفزيع (اليوم) حفظهم الله، وشيوخ الصحافة الأجلاء، عبدالمجيد شبكشي (البلاد) وحامد مطاوع (الندوة)، ورضا لاري (سعودي جازيت) رحمهم الله.
جلسنا قرابة الساعة، قبل أن يدخل علينا الأمير (الملك) عبدالله بن عبدالعزيز (رحمه الله)، متعجلا، وقد بدا عليه الإحراج، ليعتذر عن تأخره علينا بمقابلة طالت بعض الشيء مع الملك. سلم علينا فردا فردا ودعانا إلى الطائرة العسكرية التي أقلتنا إلى الموقع الصحراوي الذي اختير لإقامة المناورات.
لم يكن هناك ما يستدعي الحرج أو الاعتذار، فقد كنا في صالون مريح، نتبادل التحايا والأحاديث مع زملاء المهنة الذين قدموا من مختلف المناطق. ولم تكن تلك الساعة بالمدة الطويلة، فقد اعتدنا على المواعيد المتغيرة، للمؤتمرات والمناسبات العامة، والانتظار لأطول من ذلك، فهذه طبيعة مهنة المتاعب. ولكن خلق الأمير وحرصه على دقة المواعيد واحترامه لنا تسبب في شعوره بالحرج، كما دفعه تواضعه إلى الاعتذار.
كان هذا هو انطباعي الأول عن الشخصية التي شغلت الناس بهدوئها وبعدها عن الأضواء في ذلك الحين، والانطباع الأولي الذي تعكسه صوره الموحية بالقوة والصرامة، ومنصبه كرئيس للحرس الوطني. وكانت هذه الرحلة مع الأمير عبدالله فرصة لأتعرف عن قرب على الجانب الآخر من شخصيته التي تكشفت للجميع فيما بعد-الروح الأبوية، والشفافية، والتواضع الجم.
في كل مكان تواجدنا فيه مع أبي متعب، رحمه الله، خلال هذه الرحلة، كان علينا أن نشارك مقاعدنا المخصصة لنا في الصفوف الأولى، مع من يسبقنا إليها من محبيه وأحبابه، رجال البادية، المدعوين وغير المدعوين، فقد كانت سياراتهم رباعية الدفع والشاحنات الصغيرة (الوانيتات) تسابق الحافلة التي تحمل الإعلاميين وتحيط بسيارة الأمير. سألت السائق المتذمر من الوضع، لماذا لا يُمنعون، أجاب: الأمير يقول خلّوهم لا تزعلوهم! كان هذا أيضا رد رجال المراسم عندما سألتهم عن سبب عدم حجزهم لمقاعدنا في كل مكان نتواجد فيه مع الأمير.
كان رجال البادية يحبونه ليس فقط لشخصه ولكن لأسرته الكريمة، فقد كانوا ينادونه: يا ابن سعود، يا سعود، يا فيصل، ياخالد، يا فهد، يا عبدالله. لم يكن مهما عندهم أن يعرفوا اسمه، ولم يكن مهما عنده أن يعرّفهم باسمه، فقد كان النداء لآل عبدالعزيز بن سعود الذي وحدهم، وجمعهم على كتاب الله وسنة نبيه، ووفر لهم الأمن والأمان.
ذكرني ذلك الموقف، والشيء بالشيء يذكر، بقصة رواها لي الشيخ عبدالله بلخير- رحمه الله- في مذكرات نشرتها له في الثمانينيات الميلادية، ثم جمعتها في كتاب (عبدالله بلخير يتذكر). يحكي أبو يعرب أنه رافق الملك المؤسس في رحلة إلى البادية، وكان من موظفي الديوان الذين يسجلون أخبار وتقارير الإذاعات الدولية ويلخصونها لتقرأ على الملك في أوقات محددة من الصباح والمساء. وذات مساء لحظوا وقوف شاب بدوي خارج خيمتهم يناظرهم بشيء من التوجس. دعوه للدخول، ومشاركتهم الطعام، وتبسطوا معه حتى اطمأن إليهم.
سألوه عن رأيه في ابن سعود، فقال: لا أحبه ولا أكرهه، ثم أوضح أنه لا يكرهه لأنه أمن البلاد والعباد، حتى استطاع هو أن يقطع الفيافي والقفار وحيدا وأعزل، دون أن يتعرض له أحد، وأن يعلن عن اسمه دون أن يخشى أن يلحق به ثأر. ولا يحبه لأنه لولا عبدالعزيز لكان قد سطا عليهم، وأخذ طعامهم ومايملكون بقوة السلاح.
صباح اليوم التالي، جلس عبدالله بلخير أمام الملك وحوله مستشاروه وشيوخ القبائل وضيوفه ليقرأ له آخر الأخبار، ثم روى له قصة الاعرابي. تأثر الملك بما سمع، وطلب منه أن يعيد القصة على مسامع الحضور. وبعد أن فعل، لمح بلخير دمعة في عين صقر الجزيرة وهو يقول: والله لو أنني قابلت ربي اليوم وليس معي غير شهادة هذا البدوي لكفتني!
تذكرت قصة الأب وأنا أرى الابن، كإخوته، يرفع لواء الدولة الموحدّة، ويشيع اليقين بالأمن والأمان، وهو يتفقد أحوال شعبه في أقاصي الصحراء، كما يتفقد أبناء أسرته، بكل الاحترام لمشاعرهم، والتوقير لهم، والحنان عليهم.
ردد الجندي المسن، المممد على السرير الأبيض في المستشفى المتنقل، وهو يصر على تقبيل رأسه: أنت أبوي، أنت أبوي! ضحك الأمير وهو يصلح عقاله، بعد أن أنحنى ليقبل الجندي، وقال: قول أخوي، لا تكبرنا كثيرا! وفي موقف آخر، كان مدير العيادة التي يزورها يشكره على وفائه بوعده. نظر الينا الأمير مبتسما ليشرح أن مناورات العام الماضي شهدت إعصارا ترابيا، وشهد بنفسه هذا الطبيب وزملاءه يركضون من مكان لمكان ليحافظوا على محتويات العيادات المقامة في خيام، بعضها طارت به الريح، وبعضها سلم. وقد وعدهم حينها أن يزودهم بمستشفيات متنقلة، في سيارات مدرعة، كهذه التي نزور، فيها كل التجهيزات المتطورة، بما في ذلك غرف العمليات، وتم ذلك خلال شهور، فالحمدلله.
عندما جلسنا تلك الليلة خارج خيمة الطعام الكبيرة، على بسط وزلال، سبقنا أبناء الصحراء إلى المقاعد، وتوزع الزملاء في الأماكن المتاحة، حتى لو بعدت عن مجلس الأمير. قررت في لحظة عفوية أن أجلس على يسار الأمير مباشرة، وهي مساحة يفترض أن تبقى خالية، كما عن يمينه، حتى تتيح له رؤية واضحة لجلسائه عن يمينه وشماله. أدركت خطئي عندما أشار لي زملائي، فهممت بالقيام، وشعر الأمير بحرجي، فنظر الي متبسما وهو يقول: أشم رائحة مطر! نظرت الى السماء فوجدتها صافية، وسألته كيف عرف، فأجاب بابتسامة أكثر إضاءة وجمالا: البدوي يعرف!
كانت هذه إشارة لي ولغيري أن لا بأس بجلوسي إلى جواره، فجلست، وأنا أشعر أني أكثر الناس حظا. استمعت إليه وهو يعتذر لمن كان يدعوه لفنجان قهوة في خيمته المجاورة، أو غداء في اليوم التالي، بارتباطه بضيوفه، مشيرا إلينا. ويستمع بكل رحابة صدر لكل صاحب شكوى أو حاجة، ليبت فيها فورا أو يحيلها لمساعديه.
حرصت في طريقنا إلى خيمة العشاء أن أسير إلى جوار الأمير، وأن أجلس إلى يمينه، وليس إلى جواره مباشرة. وقبل أن نبدأ، قدم من الخلف شيخنا الأستاذ حامد مطاوع، رئيس تحرير جريدة الندوة، رحمه الله، متأخرا بعض الشيء، ونظر حوله فلم ير مكانا يجلس فيه، فجلس في المكان المتاح، وكان إلى جوار الأمير. ابتسم أبو متعب تلك الابتسامة الساحرة، والتفت إليه مرحبا، وماكاد، حتى تبين أبو أنمار شخصية محدثة، فكاد أن يقوم بسرعة، لولا أن استوقفته يد الأمير الحانية على كتفه، مكررا ترحيبه. ثم بدأ في اختيار قطع من اللحم قليلة الدسم، ليقطعها ويقدمها مع الرز في صحن لزميلنا الجليل، والذي كان يكرر شكره ورغبته إلى الأمير ألا يتعب نفسه بلا جدوى.
وفي موقف آخر، كنا نجلس في الخيمة الرئيسية عندما دخل طفل بدوي لعله في السابعة، بملابسه الرثة من أقصى الجهة المقابلة متوجها نحو الأمير، فوقف- رحمه الله- يستقبله، ويصافحه مصافحة الرجال، ثم تحدث معه حديثا لم نسمعه، وهز رأسه موافقه ورفع أصبعه داعيا أو واعدا. فابتسم الطفل راضيا وخرج كما دخل.
مر ربع قرن بعد تلك التجربة المعلّمة، والتقيت بالأمير (الملك) عبدالله بن عبدالعزيز مرة أخرى، وكانت بمناسبة اجتماعه بالمشاركين في مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد في المنطقة الشرقية عام 2004. جلست بعد السلام عليه مع زميلي الأستاذ قينان الغامدي، في الصفوف الأولى.
بدا الملك حزينا وهو يطرق بالتفكير بعد أن بلغه خبرما. ثم التفت إلى الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله، وسمعناه يقول بحرقة: اللي يوجع القلب أن ذولي عيالنا.. عيالنا. كان يتكلم عن إرهابيين قتلوا في مواجهة مع صقور نايف، ينعاهم لأنهم مهما ضل طريقهم هم أبناؤه، يشعر نحوهم شعور آبائهم وأمهاتهم الذين تكالب عليهم ضياع عيالهم ومقتلهم معتدين لا شهداء.
عندما سألني مراسل البي بي سي، لماذا تقول: إن الشعب السعودي بكى مليكه كما بكوا آباءهم؟ قلت له: لأنه كان أبا لنا، كما كان أبوه وإخوانه الملوك من قبله، سعود وفيصل وخالد وفهد، وأولياء عهودهم سلطان ونايف.
العلاقة بين المواطن السعودي، والخليجي بأسرته الحاكمة، هي علاقة عائلية. لهم علينا الولاء والحب والطاعة، ولنا عليهم العدل والرعاية.. والأبوة. وعبدالله كان كمن سبقه، أبا للصغير، وأخا للكبير، وراعيا للمسكين والضعيف والفقير. بكاه الأطفال وهم لا يعرفون عنه إلا بسمته ووجهه الحنون، وبكته المرأة التي كان لها نصير، وبكاه الشباب الذين اهتم بتعليمهم وصحتهم وحتى رياضتهم. وبكيناه نحن الذين عرفناه طول عمرنا أوسع صدرا، وأحن قلبا، وأنضر وجها، وأعلى همة.
اللهم ارحمه وارحمنا من بعده، وأعن خلفه وأعنا على عونهم، والدعاء لهم، وأجمع بين قلوب الرعاة والرعية على حبك وحب نبيك صلوات الله وسلامه عليه وصالح المؤمنين.
وللحديث بقية عن ملوك الإنسانية.